بسم الله الرحمن الرحيم .. تغريم المدين المماطل س: هل يجوز تغريم المدين المماطل؟، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
المدين إما أن يكون موسراً أو معسراً. فإن كان معسراً ( وهو الغير قادر على سداد الدين ) فلا يجوز تغريمه ويجب الصبر عليه لقوله تعالى:{وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة}البقرة:280. والمعنى إن ابتلي المرء فوقع في فقر وضيق فينبغي إمهاله إلى حين اليسر لا أن نفرض عليه الغرامات والتي تزيده عبأ فوق عبئه وحملا فوق حمله.
والسنة تجاه المدين المعسر الإمهال إلى الميسرة للتخفيف عنه بإسقاط بعض الدين أو المجاوزة والعفو عنه. لقوله صلى الله عليه وسلم:"من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله"{رواه مسلم}. وقال صلى الله عليه وسلم:"من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه"{رواه مسلم}.
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ كَعْبٍ أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ فِي بَيْتِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ(ستر) حُجْرَتِهِ، فَنَادَى يَا كَعْبُ، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ:"ضَعْ مِنْ دَيْنِكَ هَذَا وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَيِ الشَّطْرَ". قَالَ: لَقَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ:"قُمْ فَاقْضِهِ"{متفق عليه}. وعن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قالت: سَمِعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَوْتَ خُصُومٍ بِالْبَابِ عَالِيَةٍ أَصْوَاتُهُمَا، وَإِذَا أَحَدُهُمَا يَسْتَوْضِعُ الآخَرَ وَيَسْتَرْفِقُهُ فِي شَيْءٍ وَهْوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لاَ أَفْعَلُ. فَخَرَجَ عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"أَيْنَ الْمُتَأَلِّي عَلَى اللهِ لاَ يَفْعَلُ الْمَعْرُوفَ. فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ وَلَهُ أَيُّ ذَلِكَ أَحَبَّ(وله: أي لخصمي ما رغب من الحط أو الرفق).{متفق عليه}. [وَيَسْتَرْفِقُهُ فِي شَيْءٍ: يطلب أن يحط عنه شيئا من الدين، الْمُتَأَلِّي على الله: الحالف المبالغ في اليمين ].
أما ما ورد في فضل العفو والمجاوزة والإبراء فمن ذلك ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"كان رجل يداين الناس، فكان يقول لفتاه: إذا أتيت معسرا فتجاوز عنه، لعل الله يتجاوز عنا، فلقي الله فتجاوز عنه"{رواه مسلم}. وفي رواية عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"حوسب رجل ممن كان قبلكم، فلم يوجد له من الخير شيء، إلا أنه كان يخالط الناس، وكان موسرا، فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر، قال: قال الله عز وجل: نحن أحق بذلك منه، تجاوزوا عنه"{رواه مسلم}. [ ومعنى: من الخير شيء: يغلب على هفواته ويستحق به دخول الجنة ].
أما المدين الموسر فينبغي عليه أن يسارع في سداد دينه وألا يتلكأ ولا يتباطأ؛ فالدين سبب لحجز المرء عن دخول الجنة.
عن عبد الله بن أبى قتادة عن أبى قتادة أنه سمعه يحدث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قام فيهم فذكر لهم « أن الجهاد فى سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال ». فقام رجل فقال يا رسول الله أرأيت إن قتلت فى سبيل الله تكفر عنى خطاياى فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- « نعم إن قتلت فى سبيل الله وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر ». ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- « كيف قلت ». قال أرأيت إن قتلت فى سبيل الله أتكفر عنى خطاياى فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- « نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا الدين فإن جبريل عليه السلام قال لى ذلك ». [ رواه مسلم (4988 ) ].
وقال صلى الله عليه وسلم:"أول ما يهراق من دم الشهيد يغفر له ذنبه كله إلا الدين"{رواه الطبراني في "الكبير" ورجاله رجال الصحيح}.
وفي حال مماطلة المدين الموسر الغني ( وهو القادر على سداد الدين ويماطل ) فللقاضي أن يجبره على الأداء، فإن امتنع أو تباطأ وماطل فله الحق في أخذ المال عنوة عنه وعقوبته، والدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"ليّ(أي منع ومماطلة) الواجد(الغني) يحل عرضه وعقوبته". قال وكيع:"عرضه: شكايته(أي بأن يرفع أمره إلى القاضي ويشكوه ويقول ظلمني بأخذ مالي) وعقوبته: حبسه".{رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة وهو صحيح}. [ليّ(أي منع ومماطلة) الواجد(الغني) ].
إلا إذا منعه من السداد عذر قاهر كغيبة ماله وعدم وجوده بين يديه وقت الوفاء بغير تعمده فلا يكون مطله حراماً، وذلك لأن المطل المنهي عنه كما قال الحافظ ابن حجر: تأخير ما استحق أداؤه بغير عذر وهو معذور. [ انظر: فتح الباري 4/465، الموسوعة الفقهية 38/117 ]. وفي هذه الحالة لا يُعاقب ومتى زال العذر عجّل في السداد.
ويجوز تعزير الواجد الغني المماطل بالمال أي فرض غرامة مالية كنوع أو صورة من صور العقوبة عليه لقوله صلى الله عليه وسلم قال:"لي الواجد يحل عرضه وماله"{ رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح الإسناد}.
{انظر: الاختيار لتعليل المختار(2/96)، المبسوط(7/11)،الشرح الكبير لابن قدامة(4/458)، الشرح الممتع على زاد المستقنع(9/271)}
جاء في نهاية المحتاج(14/230):"مَطْلُ الْقَادِرِ يُحِلُّ ذَمَّهُ بِنَحْوِ يَا ظَالِمُ يَا مُمَاطِلُ وَتَعْزِيرَهُ وَحَبْسَهُ". وأفضل عقوبة تعزيرية في زماننا هي الغرامة المالية.
وتصرف في وجوه الخير والبر وليس لصاحب الدين، لأنه يعتبر من الربا في هذه الحالة.] انظر: د. حسين شحاتة-مجلة الاقتصاد الإسلامي العدد (286- صفحة 54)، د.
محمد أنس الزرقا ود.
محمد على القرى، التعويض عن ضرر المماطلة في الدين بين الفقه والاقتصاد ص 25 : 30 ٍ].
وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في أسنى المطالب في شرح روض الطالب(2/187):"مَطْلُ الْقَادِرِ وَيُحِلُّ ذَمَّهُ وَتَعْزِيرَهُ وَحَبْسَهُ فَإِنْ لم يَنْزَجِرْ بِالْحَبْسِ وَرَأَى الْحَاكِمُ ضَرْبَهُ أو غَيْرَهُ فَعَلَ ذلك".
وجاء في الشرح الممتع على زاد المستقنع(9/271):"«لَيّ» بمعنى مطل، و«الواجد» هو القادر على الوفاء، «عرضه»، أي: غيبته في الشكوى بأنه مماطل، و«عقوبته» لم يبين نوع العقوبة، فقال بعض العلماء: الحبس، وعندي أن الحديث ينبغي أن يكون على إطلاقه، وأن يراد بالعقوبة ما تجعله يوفي ما عليه، فقد يكون الحبس أنكى له فيبادر بالوفاء، وقد يكون الضرب أنكى، وقد يكون التشهير به أنكى له فيبادر بالقضاء، فالصحيح أن العقوبة مطلقة ترجع إلى اجتهاد القاضي".
والله تعالى أعلم
المجلس الإسلامي للإفتاء