في ذيل طبقات الحنابلة ذكر ابن رجب في ترجمة القاضي أبي بكر الأنصاري البزاز ، أنه قال:
كنت مجاوراً مكة – حرسها الله – فأصابني يوم من الأيام جوع شديد ولم أجد شيئاً أدفع به عني ذلك الجوع ، وخرجت أبحث عن طعام فلم أجد ، فوجدت كيساً من حرير مشدوداً برباط من حرير، فأخذته وجئت به إلى بيتي فوجدت فيه عقداً من لؤلؤ لم أرى مثله قط ، فربطته وأعدته كما كان .. ثم خرجت أبحث عن طعام فإذا بشيخ ينادي، ويقول: من وجد كيساً صفته كذا وكذا وله (500) دينار من الذهب.
فقلت في نفسي: إني محتاج وجائع أفآخذ هذه الدنانير ؛ لأنتفع بها وأرد له كيسه، فقلت له: تعال إليّ.
فأخذته إلى بيتي وسألته عن علامة الكيس وعلامة اللؤلؤ، وعلامة اللؤلؤ، وعدد اللؤلؤ المشدود به، فإذا هو كما كان، فأخرجته ودفعته إليه، فسلـم إليّ (500) دينار الجائزة التي ذكرها.
فقلت له: يجب عليَّ أن أعيده إليك ولا آخذ له جزاءً.
فقال: لابد أن تأخذ وألحّ عليّ كثيراَ وأنا أحوج ما أكون.
فقلت: والذي لا إله إلا هو ما آخذ عليه جزاءّ من أحد سوى الله، فلم أقبل الدنانير، فتركني ومضى ورجع الشيخ بعد موسم الحج إلى بلده.
وأما ما كان مني ( الكلام للإمام البزاز) فإنني خرجت من مكة وركبت البحر وسط أمواجه المتلاطمة وأهواله ، وتكسر المركب وغرق الناس وهلكت الأموال وسلمني الله ، إذ بقيت على قطعة من المركب تذهب بي يمنة ويسرة ، ولا أدري إلى أين تذهب بي ، وبقيت مدة في البحر تتقاذفني الأمواج من مكان إلى مكان .. حتى قذفتني إلى جزيرة فيها أميون لا يقرؤون ولا يكتبون ، فجلست في مسجدهم وقمت أقرأ ، فما أن رآني أهل المسجد حتى اجتمعوا عليّ فلم يبق في الجزيرة أحد إلا قال: علمني القرآن.
فعلمتهم القرآن، وحصل لي خير كثير من جراء ذلك.. ثم رأيت في المسجد مصحفاً ممزقا فأخذته وأوراقه لأقرأ به.
فقالوا: أتحسن الكتابة؟
فقلت: نعم.
قالوا: علمنا الخط.
فقتل: لا بأس.
فجاءوا بصبيانهم وشبابهم فكنت أعلمهم، وحصل لي خير كثير، ورغبوا فيه، فقالوا له بعد ذلك وهم يريدون أن يبقى معهم، عندنا جارية يتيمة ومعها شيء من الدنيا ونريد أن نزوجها لك وتبقى معنا في هذه الجزيرة.
قال: فتمنعت، فألحوا عليّ، وألزموني فلم أجد أمامي إلى إلحاحهم وإصرارهم، فأجبت لهم.
فجهزوها لي وزفها محارمها، وجلست معهم، وإذا بي أنظر إليها وإذا العقد الذي رأيته في مكة بعينه، معلقاً بعنقها، فدهشت، وما كان لي بشغل إلا النظر إلى العقد.
فقال محارمها: يا شيخ كسرت قلب اليتيمة لم تنظر إليها، وإنما تنظر إلى العقد!!
قلت: إن في هذا العقد قصة!
قالوا: ما هي قصته؟
فقصصتها عليهم، فصاحوا وضجوا بالتهليل والتكبير، وصرخوا بالتسبيح حتى بلغ صوتهم أنحاء الجزيرة.
قلت: سبحان الله.. ما بكم؟
قالوا: إن هذا الشيخ الذي رأيته وأخذ العقد في مكة هو أبو هذه الصبية، وكان يقول عند عودته من الحج ويردد دائماً والله ما رأيت على وجه الأرض مسلماً كهذا الذي رد عليَّ اعقد بمكة ، اللهم اجمع بيني وبينه حتى أزوجه ابنتي، وتوفي ذك الرجل وحقق الله دعوته.
يقول : فبقيت معها مدة من الزمن فكانت خير امرأة ورزقت منها بولدين .. ثم توفيت ، فعليها رحمة الله فورثت العقد المعهود أنا وولداي ، ثم توفي الولدان واحداً واحداً فورثت العقد منهما.. فبعته بمائة ألف دينار.
ويحدِّث بعد مدة، ويقول: هذا من بقايا ثمن العقد فرحمة الله على الجميع.