ابو حامد الغزالي .. والعبقرية
عبقرية الغزالي
لقب بحجة الاسلام إذ كان يحضر درسه أربعمائة عمامة من أكابر الناس
وفضلائهم يأخذون عنه العلم (ابو بكر العربي كتاب العواصم من القواصم ص21 )
وهو من أوائل علماء الاسلام الذين خاضوا في مقولات الفلاسفة ووضع كتابا ً
خاصا ً يبسط آراءهم وأدلتهم وشبهاتهم واستشكالاتهم
( مقاصد الفلاسفة ) ، ليبدأ بعدها رحلة مثيرة في نقدهم بعد أن أصبح الأقوى حجة والارسخ بينهم .
وفي كتابه ( تهافت الفلاسفة ) أكمل الرد على عميق فهمهم فتولى إبطال مايخالف
العقل والدين في أقوالهم ، وهنا خالف في مساره الفكري كلا الفريقين ( الفقهاء )
و ( الفلاسفة ) فرفض رأي الفقهاء الذين نظروا الى المنطق نظرة تحريم وأحتقار
فقال ( من لايحيط بالمنطق فلا ثقة بعلومه أصلا ً ( مقدمة بن خلدون ص506)
وأيضا ً خالف الفلاسفة الذين حاولوا إقامة عقائدهم على أساس من العقل
وقال ( أن الواجب أن نقيم ايماننا الديني على أساس ماجاء به الوحي أو الكشف الصوفي ..
وقال أن العقل يكـّـذب الحس وبرهن على كلامه هذا أننا نرى الظل ساكناَ ً
وهو متحرك ونرى الكوكب صغيرا ً وهو أكبر من الارض فبطلت ثقته في المحسوسات
لان العقل يكذبها ثم أردف قائلا ً لعل وراء العقل عقلا ً آخر حاكما ً يكذب
حكمه أيضا ً ألسنا نرى في منامنا أمورا ً نعتقد أنها حقيقية ثم يظهر لنا
عند اليقظة انها لم تكن الا احلاما ً .
لقد سبق الغزالي ( ديكارت ) بستة قرون في معالجته لهذا الشك العقلي
بالادلة الاولية البديهية ، ليس هذا فحسب بل أن الغزالي ( رحمه الله ) سبق
( عمانوئيل كانط ) يوم أن وقر في نفسه أن ليس للشك علاج الا بالدليل الفطري
وقال عنه أن هذه الاوليات هي معان ظاهرة مركوزة في الذهن ولاشىء أظهر منها .
وحين يلتفت لنقد مبدأ السببية ( سابقا ً الفيلسوف الانكليزي هيوم ) يقول أننا نشاهد
تعاقب حادثة بعد أخرى مرة بعد مرة فنظن الاولى سببا ً والثانية نتيجة والصحيح
أن ذلك مجرد عادة عقلية أعتدناها ومعلوم ان اعتيادنا لايستدل به على ترابط
الحادثتين فان كان الاحتراق يحدث بعد ملاقاة النار فليس يعني ذلك ان
لملاقاة النار دخلا ً في حدوث الاحتراق .. انها قضية تعاقب تجري بأمر الله
وأذا شاء الله فقد لايجريها أحيانا ً ( المنقذ من الضلال ص 12)
ثم يقول أن الله لم ينبت من الشعير حنطة ولكن من أستقرأ عجائب العلوم لم ي
ستبعد من قدرة الله مايحكى عن معجزات الانبياء ( تهافت الفلاسفة ص226 ) .
والمدهش أن الغزالي يعتقد أن الاولياء والسحرة يشاطرون الانبياء في جريان الاعمال
الخارقة على يديهم فاذا كان النبي يتحدى الناس فان الولي لايتحداهم أما الساحر فسيرته
تنبىء عن كونه فاسدا ً وأعماله شريرة وهكذا يميز بين الثلاثة ( سليمان دنيا \ الحقيقة في نظر الغزالي ص 517 ) .
وتتضح عبقريته حين يرد على ارسطو في فكرة ( معنى الزمان والمكان )
أذ يصف أرتباك عقل ارسطو عن تصور الزمان الذي لايسبقه زمان والمكان
الذي لامكان بعده ويسوق في براهينه مركزا ً على صفة ( الارادة الالهية )
عند الله تعالى والتي غفل عنها ارسطو وغيره عن تحديد معناها
وأخيرا ً فان جواب الفيلسوف الاندلسي في كتابه ( تهافت التهافت )
والذي كان ردا ً على كتاب الغزالي ( تهافت الفلاسفة ) مايشير الى أن كليهما
متفقين في جميع الآراء عن الوجود والخلق والخالق .
لقد اتهمه خصومه بالزندقة من جراء آرائه الجريئة فهجر الناس
يقول ابو بكر العربي في كتابه ( العواصم من القواصم ) رايت الغزالي في البرية
وبيده عكاز وعليه مرقعة وعلى عاتقه ركوة فدنوت منه وسلمت عليه فرد بحسرة قائلا ً
غزلت لهم غزلا ً دقيقا ً فلم أجد
لغزلي نساجا ً فكسرت مغزلي
كان الاثر الذي أحدثه رحمة الله عليه في التفكير الاسلامي عظيما ً يندر مثيله
حيث لفت أنظار المسلمين الى ضرورة دراسة المنطق وعمله هذا نقطة
تحول في موقف المسلمين تجاه المنطق الارسطي على حد عبارة العلامة علي الوردي