أبي بن كعب بن قيس بن عُبيد النجّار - أبو منذر - الأنصاري الخزرجي كان قبل الإسلام حَبْراً من أحْبار اليهود، مطلعاً على الكتب القديمة ولمّا أسلم كان في كتاب الوحي.
شهد العقبـة و بدرا وبقية المشاهـد وجمع القرآن في حياة الرسـول -صلى الله عليه وسلم- وكان رأساً في العلم وبلغ في المسلمين الأوائل منزلة رفيعة، حتى قال عنه عمر بن الخطاب (أبي سيد المسلمين).
كتابة الوحي
كان أبي بن كعب في مقدمة الذين يكتبون الوحي ويكتبون الرسائل، وكان في حفظه القرآن وترتيله وفهم أياته من المتفوقين، قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يا أبي بن كعب، اني أمرت أن أعرض عليك القرآن).
وأبي يعلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- انما يتلقى أوامره من الوحي هنالك سأل الرسول الكريم في نشوة غامرة: (يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، وهل ذكرت لك باسمي؟).
فأجاب الرسول - صلى الله عليه وسلم-: (نعم، باسمك ونسبك في الملأ الأعلى)... كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (أقـرأ أمتي أبَيّ).
علمه
سأله النبي -صلى الله عليه وسلم- يوما: (يا أبا المنذر، أي أية من كتاب الله أعظم؟)... فأجاب قائلا: (الله ورسوله أعلم).
وأعاد النبي -صلى الله عليه وسلم- سؤاله: (يا أبا المنذر، أي أية من كتاب الله أعظم؟)... وأجاب أبي: (الله لا اله الا هو الحي القيوم).
فضرب الرسول -صلى الله عليه وسلم- صدره بيده، وقال له والغبطة تتألق على محياه: (ليُهْنِكَ العلم أبا منذر)...
وعن أبي بن كعب أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلّى بالناس، فترك آية فقال: (أيُّكم أخذ عليّ شيئاً من قراءتي؟).
فقال أبيُّ: (أنا يا رسول الله، تركتَ آية كذا وكذا)... فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (قد علمتُ إنْ كان أحدٌ أخذها عليّ فإنّكَ أنت هو).
وقال أبي بن كعب لعمر بن الخطاب: (يا أمير المؤمنين إني تلقيتُ القرآن ممن تلقّاه من جبريل وهو رطب)...
زهده
وعن جُندب بن عبد الله البجلي قال: أتيت المدينة ابتغاء العلم، فدخلت مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإذا الناس فيه حَلَقٌ يتحدّثون، فجعلت أمضـي الحَلَقَ حتى أتيتُ حلقـةً فيها رجل شاحبٌ عليه ثوبان كأنّما قـدم من سفر.
فسمعته يقول: (هلك أصحاب العُقـدة ورب الكعبـة، ولا آسى عليهم)... أحسبه قال مراراً... فجلست إليه فتحدّث بما قُضيَ له ثم قام، فسألت عنه بعدما قام قلت: (من هذا؟).
قالوا: (هذا سيد المسلمين أبي بن كعب)... فتبعته حتى أتى منزله، فإذا هو رثُّ المنزل رثُّ الهيئة، فإذا هو رجل زاهد منقطعٌ يشبه أمره بعضه بعضاً...
ورعه وتقواه
قال أبي بن كعب: (يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك في صلاتي؟).
قال: (ما شئت، وإن زدت فهو خيرٌ)... قال: (الرُّبـع؟)... .. قال: (ما شئـت، وإن زدت فهو خيرٌ)... قال: (أجعلُ النصـف؟)...
قال: (ما شئـت، وإن زدت فهو خيرٌ)... قال: (الثلثيـن؟)... .. قال: (ما شئـت، وإن زدت فهو خيرٌ)... قال: (اجعـل لك صلاتي كلّها؟)... قال: (إذاً تُكفـى همَّك ويُغفَر ذنبُك).
وبعد انتقال الرسول -صلى الله عليه وسلم- الى الرفيق الأعلى، ظل أبي على عهده في عبادته وقوة دينه، وكان دوما يذكر المسلمين بأيام الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويقول: (لقد كنا مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- ووجوهنا واحدة، فلما فارقنا اختلفت وجوهنا يمينا وشمالا).
وعن الدنيا يتحدث ويقول: (ان طعام ابن آدم، قد ضرب للدنيا مثلا، فان ملحه وقذحه فانظر الى ماذا يصير؟).
وحين اتسعت الدولة الإسلامية ورأى المسلمين يجاملون ولاتهم، أرسل كلماته المنذرة:(هلكوا ورب الكعبة، هلكوا وأهلكوا، أما اني لا آسى عليهم، ولكن آسى على من يهلكون من المسلمين)... وكان أكثر ما يخشاه هو أن يأتي على المسلمين يوما يصير بأس أبنائهم بينهم شديد.
وقعة الجابية
شهد أبـي بن كعـب مع عمـر بن الخطاب وقعة الجابيـة، وقد خطـب عمـر بالجابية فقال: (أيها الناس من كان يريـد أن يسأل عن القرآن فليأتِ أبـيَّ بن كعـب)...
الدعوة المجابة
عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: قال عمر بن الخطاب: (اخرجوا بنا إلى أرض قومنا).
قال: فخرجنا فكنت أنا وأبي بن كعب في مؤخَّر الناس، فهاجت سحابة، فقال أبيُّ: (اللهم اصرف عنّا أذاها)... فلحقناهم وقد ابتلّت رحالهم.
فقال عمر: (أمَا أصابكم الذي أصابنا؟)... قلت: (إن أبا المنذر دعا الله عزّ وجلّ أن يصرف عنّا أذاها)... فقال عمر: (ألا دعوتُمْ لنا معكم؟!)...
الوصية
قال رجلٌ لأبي بن كعب: (أوصني يا أبا المنذر)... قال: (لا تعترض فيما لا يعنيك، واعتزل عدوَّك، واحترس من صديقك، ولا تغبطنَّ حيّاً إلا بما تغبطه به ميتاً، ولا تطلب حاجةً إلى مَنْ لا يُبالي ألا يقضيها لك)...
مرضه
عن عبـد اللـه بن أبي نُصير قال: عُدْنا أبي بن كعـب في مرضه، فسمع المنادي بالأذان فقال: (الإقامة هذه أو الأذان؟)... قلنا: (الإقامـة)... فقال: (ما تنتظرون؟ ألا تنهضون إلى الصلاة؟)... فقلنا: (ما بنا إلا مكانك)... قال: (فلا تفعلوا قوموا، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلى بنا صلاة الفجر، فلمّا سلّم أقبل على القوم بوجهه فقال: (أشاهدٌ فلان؟ أشاهدٌ فلان؟).
حتى دعا بثلاثة كلهم في منازلهم لم يحضروا الصلاة فقال: (إن أثقل الصلاة على المنافقين صلاة الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حَبْواً، واعلم أنّ صلاتك مع رجلٍ أفضل من صلاتك وحدك، وإن صلاتك مع رجلين أفضل من صلاتك مع رجل، وما أكثرتم فهو أحب إلى الله، وإن الصفّ المقدم على مثل صف الملائكة، ولو يعلمون فضيلته لابتدروه، ألا وإن صلاة الجماعة تفضل على صلاة الرجل وحدَه أربعاً وعشرين أو خمساً وعشرين).
قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (ما مِنْ شيءٍ يصيب المؤمن في جسده إلا كفَّر الله عنه به من الذنوب)... فقال أبي بن كعب: (اللهم إنّي أسألك أن لا تزال الحُمّى مُضارِعةً لجسدِ أبيٌ بن كعب حتى يلقاك، لا يمنعه من صيام ولا صلاة ولا حجّ ولا عُمرة ولا جهاد في سبيلك).
فارتكبته الحمى فلما تفارقه حتى مات، وكان في ذلك يشهد الصلوات ويصوم ويحج ويعتمر ويغزو...
وفاته
توفـي -رضي اللـه عنه- سنة (30هـ)، يقول عُتيّ السعـديّ: قدمت المدينة في يـوم ريحٍ وغُبْـرةٍ، وإذا الناس يموج بعضهم في بعـض.
فقلت: (ما لي أرى الناس يموج بعضهم في بعض؟)... فقالـوا: (أما أنـت من أهل هذا البلـد؟)... قلت: (لا)... قالوا: (مات اليـوم سيد المسلمين، أبيّ بن كعب).