الثورة بين دعات الحق وعلماء السلطة
إن أول ما أصاب الأمة الإسلامية في تاريخها هو التفريط في قاعدة الشورى، وتحول "الخلافة الراشدة "إلى مُلك عضوض" سماه بعض الصحابة "كسروية" أو "قيصرية" وما أصاب الإسلام وأمته ودعوته في العصر الحديث إلا من جراء الحكم الاستبدادي المتسلط على الناس بسيف المعز وذهبه، وما عطلت الشريعة، ولا فرضت العلمانية، وألزم الناس بالتغريب إلا بالقهر والجبروت، واستخدام الحديد والنار، ولم تضرب الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية، ولم ينكل بدعاتها وأبنائها، ويشرد بهم كل مشرد، إلا تحت وطأة الحكم الاستبدادي السافر حينا، والمقنع أحيانًا بأغلفة من دعاوى الديمقراطية الزائفة، الذي تأمره القوى المعادية للإسلام جهرًا، أو توجهه من وراء ستار،فالحرية السياسية أول ما نحتاج إليه،لم ينتعش الإسلام،ولم تنتشر دعوته،ولم تبرز صحوته،وتعل صيحته، إلا من خلال ما يتاح له من حرية محدودة، يجد فيها الفرصة ليتجاوب مع فطر الناس التي تترقبه، وليُسمِعَ الآذان التي طال شوقها إليه، وليقنعَ العقول التي تهفو إليه لذا كانت صيحة النبيصلى الله عليه وسلم(أن خلو بيني وبين الناس)
وقد شهدت أمتنا أحداثا عظيمة وتغييرات كبيرة وطرد للطغاة وقمع للاستبداد نتيجة إيجابية الشعوب وخروجها لمواجهة الظلم والطغيان في مسيرات ومظاهرات شعبية سلمية بلا تخريب ولا تدمير ولكن السلطة الغاشمة قابلت سلمية التظاهرات بالبلطجة والعنف وسقط من المتظاهرين المسالمين ضحايا كثر ومئات الجرحى وخرج زبانية الظالم ونعال السلطة يجرمون المتظاهرين ،ومع أن الموضوع بدهي وفطري وشرعي من أول وهلة، إلا أن هناك من حرمها وجرمها ووصف من يقومون بها بالخوارج، وهؤلاء لا يقلون خطرا على الأمة من أعدائها الظاهرين؛ لأنهم يسيرون في خط تجريم كل ما فيه حركة أوعمل أو كلمة تتصدى لأعداء الأمة،أو تفضح الأنظمة الفاسدة العميلة،بل يبررون لها أفعالها ومواقفها المخذلة،ورأينا خلطا واضحا ينم عن جهل فاضح لأنصار السلطة الظالمة الذين يتمسحون زورا وبهتانا بالدين والسلف وهما منهم براء،فلا يفرق الجهول بين المظاهرة التي هي تعبير عن الرأي والحرية التي كفلها الإسلام وبين الخارجين علي الإمامالحق وبين الخوارج الذين هم طائفة ضالة لهم مبادئ معروفة ويكفرون سائر الأمة،فنجد الجهلاء يرمون المتظاهرين بالخروج ويصفونهم بالخوارج(كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا) فإنَّ من أعظـم ما ابتُليت بهم الأمــّة هذه الأيام،إنتشار الظلم،ومصادرة الحقوق،وتسويغ ذلك بإسم الدين،وأحكام الشريعـة،على يـد شيوخ جهلاء،وعلماء المباحث،الذين اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا،وجعلوا الفتوى الشرعيـّة سوقـاً تباع فيها النصوص بعد تحريفها ، والفتاوى بعد تصريفها
حقيقة المظاهرات وبيان حكمها:
أولاً : تعريف المظاهرات
في اللغة:المُظَاهَرةُ المعاونة و التَّظاهُرُ التعاون و اسْتَظْهَرَ به استعان به
المظاهرات في الاصطلاح:قال الخطابي معنى المظاهرة المعاونة إذا استنفروا وجب عليهم النفير وإذا استنجدوا أنجدوا ولم يتخلفوا ولم يتخاذلوا.،وما تعارف عليه الناس في هذا العصر من مفهوم المظاهرة والات والمسيرات والإعتصامات وهي:إعلاء لمشاعر المسلمين وإظهار لقوتهم وإنكار الظلم وأمر بالمعروف ونهي على المنكر.
والمظاهرة هي وسيلة لغاية ليس لها حكم شرعي منفرد إنما حكمها من حكم غايتها،فتأخذ الأحكام التكليفية الخمسة فقد تكون المظاهرة واجبة إذا كانت لرد الحقوق ودفع الظلم،وقد تكون مندوبة إذا دعت لفضيلة،وقد تكون مباحة إذا نادت بأمر مباح، وقد تكون مكروهة إذا أعلنت أمر مكروه شرعا،وقد تكون محرمة إذا تظاهرت لأمر محرم(كتظاهر الشواذ الذي حدث في مصر من قبل) نخلص من ذلك أن التظاهر له أحكام مختلفة فمن الجهل أن نمنع التظاهر كله.
وقد رأينا ديننا يحرض المسلم على مقاومة الفساد في الداخل ويعتبره أفضل من مقاومة الغزو من الخارج، فيقولصلى الله عليه وسلم حين سئل عن أفضل الجهاد : " أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر " وذلك لأن فساد الداخل هو الذي يمهد السبيل لعدوان الخارج.ويعتبر الشهادة هنا من أعلى أنواع الشهادة في سبيل الله : " سيد الشهداء حمزة، ثم رجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله "،ويغرس في نفس المسلم رفض الظلم، والتمرد على الظالمين حتى إنه ليقول في دعاء القنوت المروي عن ابن مسعود،:" نشكرك الله ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك "،ويصب جام غضبه، وشديد إنكاره على الذين يقبلون الضيم، ويرضون بالإقامة في أرض يهانون فيها ويظلمون، ولديهم القدرة على الهجرة منها والفرار إلى أرض سواها، فيقول : (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيما كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرًا.. إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً.. فأولئك عسى الله أن يعفوا عنهم وكان الله عفوًا غفورًا).(النساء 97 ـ 99).حتى هؤلاء العجزة والضعفاء قال القرآن في شأنهم ( عسى الله أن يعفوا عنهم) فجعل ذلك في مظنة الرجاء من الله تعالى، زجرًا عن الرضا بالذل والظلم ما وجد المسلم إلى رفضه سبيلاً. وحديث القرآن المتكرر عن المتجبرين في الأرض من أمثال فرعون، وهامان، وقارون وأعوانهم وجنودهم، حديث يملأ قلب المسلم بالنقمة عليهم، والإنكار لسيرتهم، والبغض لطغيانهم، والانتصار ـ فكريًا وشعوريًا ـ لضحاياهم من المظلومين والمستضعفين.
وحديث القرآن والسنة عن السكوت على المنكر، والوقوف موقف السلب من مقترفيه ـ حكامًا أو محكومين ـ حديث يزلزل كل من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان.
يقول القرآن : ( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون.. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون). (المائدة : 78، 79). ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان "(رواه مسلم). ومن الخطأ الظن بأن المنكر ينحصر في الزنى، وشرب الخمر، وما في معناهما. إن الاستهانة بكرامة الشعب منكر أي منكر، وتزوير الانتخابات منكر أي منكر والقعود عن الإدلاء بالشهادة في الانتخابات منكر أي منكر، لأنه كتمان للشهادة، وتوسيد الأمر إلى غير أهله منكر أي منكر، وسرقة المال العام منكر أي منكر، واحتكار السلع التي يحتاج إليها الناس لصالح فرد أو فئة منكر أي منكر، واعتقال الناس بغير جريمة حكم بها القضاء العادل منكر أي منكر، وتعذيب الناس داخل السجون والمعتقلات منكر أي منكر، ودفع الرشوة وقبولها والتوسط فيها منكر أي منكر، وتملق الحكام بالباطل وإحراق البخور بين أيديهم منكر أي منكر، وموالاة أعداء الله وأعداء الأمة من دون المؤمنين منكر أي منكر. وهكذا نجد دائرة المنكرات تتسع وتتسع لتشمل كثيرًا مما يعده الناس في صلب السياسة.
فهل يسع المسلم الشحيح بدينه،الحريص على مرضاة ربه، أن يقف صامتًا ؟ أو ينسحب من الميدان هاربًا، أمام هذه المنكرات وغيرها ... خوفًا أو طمعًا، أو إيثارًا للسلامة ؟
إن مثل هذه الروح إن شاعت في الأمة فقد انتهت رسالتها، وحكم عليها بالفناء، لأنها غدت أمة أخرى، غير الأمة التي وصفها الله بقوله : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله). (آل عمران 110).
ولا عجب أن نسمع هذا النذير النبوي للأمة في هذا الموقف إذ يقول : " إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم : يا ظالم فقد تودع منهم "