رحلة معاناة وشوق إلى رحاب القدس في ليلة القدر
القدس -دنيا الوطن
في طريقنا من مدينة رام الله باتجاه القدس وعلى بعد أمتار من حاجز قلنديا العسكري، كنا على موعد مع رحلة المعاناة والشوق التي يتكبدها عشرات آلاف المصلين المنتظرين بصبر وشوق السماح لهم بقطع الحاجز نحو الأقصى، استعداداً لإحياء هذه الليلة العظيمة والاعتكاف في رحاب المسجد، لما لها من ثواب العبادة والمغفرة عند الله عز وجل.
وعلى مقربة من الحاجز انتشر جنود الاحتلال بشكل مكثف، يرصدون كل ما يتحرك، بعضهم يدققون ويتفحصون هويات المارة الذين اصطفوا في طابور طويل على أمل السماح لهم بالدخول، والبعض الآخر من الجنود يراقب بحذر شديد وهم يضعون أيديهم على زناد بنادقهم استعداداً لأي طارئ قد يواجهونه هناك.
وبفرحة ملؤها الشوق والحنين تقترب سميرة يوسف (38 عاماً) من مدينة نابلس من الحاجز مع زوجها يوسف وأطفالها الأربعة، وما أن شاهد الجنود هويتها حتى اخبرها أحدهم أنها بحاجة إلى تصريح حتى يسمح لها بالمرور، وأشار لها الجندي بإصبعه 'ممنوع الدخول' في تلك اللحظة صرخت سميرة 'لا.. لا.. أريد الدخول مع زوجي، وأطفالي فليس من حقكم منعي'، ومن دون رحمة وشفقة يصرخ الجندي في وجهها وهو يصوب بندقيته باتجاهها 'إرحلي من هنا.. إرحلي...'، وبدموع ملؤها الحسرة والألم تودع سميرة زوجها وأطفالها، وتمسح سميرة دموعها لتضم أطفالها وتقول 'لا تحزنوا.. لا تحزنوا.. أذهبوا مع والدكم واحرصوا على أنفسكم، أنا سأكون بانتظاركم لدى عودتكم للمنزل، ولا تنسوا أن تدعوا الله أن يلم شملنا بعد أن نزع الاحتلال فرحتنا، حسبي الله ونعم الوكيل'.
وليس ببعيد عن الحاجز وبالقرب من الجدار العازل الذي يحيط بالمدينة المقدسة يحاول بعض الشبان الفلسطينيين ممن لم يحالفهم الحظ وضاقت بهم السبل في قطع الحاجز أن يختلسوا النظر لعلهم يجدوا ضالتهم في العثور على مكان أو مخرج آخر يدخلون منه إلى المدينة.
وبحذر شديد يتجه أبو أحمد (35 عاما) من مدينة رام الله ومعه عدد من أصدقائه إلى بوابة قريبة من الجدار بالقرب من ضاحية البريد، يجري مكالمة تلفونية مع أحد أصدقائه المقدسيين ليعطيه صورة عن وضع الطريق ويطمئنه إلى عدم وجود جنود إسرائيليين في الجهة الأخرى من الجدار، ثم يأتي زميله فادي وهو يتصبب عرقاً ويضع سلما خشبيا مع بعض الأصدقاء ونظرات الخوف تعتريهم من كل جانب، ليصعدوا واحداً تلو الآخر على الجدار وينزلوا لركوب إحدى الحافلات المتجه للمدينة.
ويقول الأصدقاء الذين تسلقوا الجدار ' الله قدر ولطف... الحمد لله سارت الأمور على ما يرام، فعلى الرغم من الخوف الذي تملكني أثناء صعودي الجدار خوفاً من إمساك جنود الاحتلال بي إلا أنني كنت مسروراً للمخاطرة في سبيل الوصول إلى المسجد الأقصى لإحياء هذه الليلة المباركة، فمن حقي كفلسطيني أداء طقوس العبادة أينما شئت وفي أي وقت، فليس من حقهم منعنا من دخول القدس، فالبلد بلدنا قبل أن يأتوا إليها ويحتلوها'.
وعند وصولنا منطقة باب العمود انتشر جنود الاحتلال على مداخل البلدة القديمة والأقصى وقاموا بنصب الحواجز المتنقلة للتدقيق في هويات المصلين، وأغلقت الشوارع الرئيسية أمام السيارات الخصوصية، حيث شهدت الطرق المحيطة بالقدس وأسواقها حركة نشطة، فكانت الحافلات التي تنقل المواطنين تملئ كافة الطرقات خارج أسوار البلدة القديمة، كما غصت الشوارع بآلاف الزائرين من مناطق الضفة الغربية وأهلنا من عرب 48 إضافة إلى مواطنيها المقدسيين، تحيط بهم أصوات الباعة المتجولين من كل جانب وفي كل زاوية وكل شارع، ومروراً بشارع الواد في البلدة القديمة في طريقنا للمسجد الأقصى غطت زينة رمضان وفوانيسه النحاسية كافة المنازل والمحال التجارية ابتهاجاً وفرحة بالشهر الفضيل.
وفي الطريق بين شارع الواد وباب الناظر بالبلدة القديمة، التقينا الحاج أبو أسعد من مدينة الخليل (55 عاما) الذي عبر عن سعادته في الوصول إلى القدس قائلاً:'رغم التشديد والمعيقات الإسرائيلية التي تهدف للحد من دخولنا للمدينة وزيارة المسجد الأقصى وساعات الانتظار الطويلة على الحاجز، إلا أنني مسرور جداً بالسماح لي بمرور الحاجز فهذه المرة الأولى التي أدخل فيها مدينة القدس منذ خمسة عشر عاماً، لإحياء هذه الليلة المباركة، فأجر هذه الليلة العظيمة في رحاب المسجد الأقصى كبير عند الله تعالى'.
وبخطىً بطيئة يمشي الزوار في أزقة وشوارع البلدة القديمة، يمتعون أنظارهم بحجارتها وبيوتها وأسواقها التي تروي تاريخا وأمجادا عريقة، وهم يتلهفون بشوق شديد للوصول إلى باحات المسجد الأقصى لإحياء ليلة من الليالي التي فضلها الله عن باقي ليالي العام.
ولم تستطيع الحاجة أم محمد (76 عاماً)، من مدينة قلقيلية، أن تخفي مشاعر فرحتها بوصولها إلى باحة قبة الصخرة قائلة: 'لقد اجتزنا العديد من الحواجز والطرق الصعبة للوصول إلى القدس، فهذه الليلة تستحق منا كل العناء، وبحمد الله تعالى أخيراً استطعت الوصول إلى المسجد الأقصى، فأنا لا استطيع أن أعبر عن مدى فرحتي وسعادتي بوصولي إلى هنا'.
ولدى دخولنا باب الناظر مع رفع آذان العصر غصت باحات المسجد الأقصى بآلاف المصلين لأداء صلاة العصر، وبعد برهة من انتهاء الصلاة تنقلنا بين جموع المصلين التي ملأت كافة أرجاء المكان.
وعن صورة الأجواء الرمضانية في القدس بشكل عام وليلة القدر بشكل خاص تقول الحاجة زهرة الشوامرة التي جلست في باحة قبة الصخرة المشرفة، إن أجواء رمضان في المدينة تختلف الآن عما كانت عليه في الماضي البعيد، حيث العادات والتقاليد، حيث يكمن الاختلاف في المحاولات والممارسات الإسرائيلية المستمرة لطمس معالم المدينة والتضييق على أهلها من خلال سلخ المدينة عن محيطها ومنع الفلسطينيين من الوصول إلى المسجد الأقصى للصلاة فيه خصوصاً في شهر رمضان المبارك.