فن تصوير القران الكريم في قصة موسى عليه السلام و بنات شعيب عليه السلام

التصوير الفني في القرآن اعجاز جديد لم يلتفت اليه الاقدمون وفي المثال التالي نعطيكم لمحة عن القصة القصيرة المتكاملة كما وردت في القرآن ويعرض فيها الكاتب "محمد كامل حسن المحامي" للايجاز القرآني المبدع وللواقعية القصصية التي تتحدث عن العواطف بدقة وبدون اباحية في الوقت نفسه. لونت شرح القصة بالازرق كي تلمسوا لمس اليد ايجاز القرآن وبلاغته فإذا جمعتم ما هو مكتوب بالازرق تحصلون على نفس القصة المذكورة في القرآن ولكن بحجم اكبر وبلاغة اقل.

القصة القصيرة في القرآن

خرج موسى من مصر وقطع رحلة طويلة شاقة تعذب فيها كثيرا إذ عضه الجوع بنابه وكان يتقوت على ورق الشجر حتى وصل إلى مدينة مدين مشيا على قدميه. ويبدأ هذا المشهد من القصة في لحظة وصوله إلى مدينة مدين بالآيات التالية: "ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير(23)فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير(24)فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين(25)قالت إحداهما ياأبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين(26)قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين(27)

ونقف برهة عند هذه المرحلة من التسلسل السردي للقصة لنتعرف على معالمه وابعاده الفنية. وقد تحتاج الايات السالفة الى شرح وتفسير لكي نعرف عمق ابعاد تصويرها الفني .. لأن معجزة القرآن كما نعلم هي في بلاغته اللغوية. ولا بد لنا من أن نفهم مدلول كل كلمة من هده الآيات حتى نتذوق ونستمتع بتصويرهما الفني . .قال الله تعالى : "فلما ورد ماء مدين". ورود الماء معناه إما الدخول إلى المنطقة التي فيها الماء أو بلوغه هذه المنطقة وإن لم يدخلها. هكذا يقول تفسير (القرطبي) استشهادا بما ذكره بعض فصحاء العرب وشعرائهم في معنى الورود. والذي يعنينا في هذا الصدد أن نتخيل منظر موسى عليه السلام بعد أن قطع رحلته الشاقة الطويلة ووصل إلى مدينة مدين. كان متعبا مرهقا جائعا فلما دخل إلى المدينة اتجه إلى حيث يوجد الماء وهذا أمر طبيعي. وقد لخص القران الكربم كل ذلك في أربع كلمات: "ولما ورد ماء مدين". ثم يأتي بعد ذلك وصف المكان بهذه الكلمات القليلة أيضا "وجد عليه أمة من الناس". والأمة هي الجمع الكثير من الناس . . أي أن مورد الماء كان مزدحما بعدد كبير من الناس. وبعد وصف وصول موسى إلى مورد الماء المزدحم بالناس صورت كلمة واحدة ما كان يفعله هؤلاء الناس! وهذه الكلمة هي : "يسقون". يسقون ماذا؟.. يسقون ماشيتهم وأغنامهم كما فهم بعد ذلك من وصفهم بأنهم رعاة. يا لها من بلاغة معجزة ..، كلمة واحدة ترسم الحركة وتصورها .. وتأتي بعد ذلك الحركة التالية. . . في أربع كلمات أيضا وهي : "ووجد من دونهم امرأتين". ومعنى "من دونهم" أي من دون الناس المزدحمين حول البئر . .. أي أنه وجد المرأتين في الجهة التي جاء هو فيها. وهكذا اكتمل المنظر بأبعاده وشخصياته وأماكن وجودهم والحالة التي كانوا فيها. . ثم حددت كلمة واحدة بليغة ما كانت تفعله المرأتان وأظهرت سبب وجودهما من دون الجمع الكبير المتزاحم حول مورد الماء. وهذه الكلمة الواحدة هي . . " تذودان ". أي تحبسان وتمنعان أغنامهما حتى لا تختلط في أغنام الآخرين فيدعي أحدهم أنها أغنامه. والمعنى الذي يفهم من ذلك أن هاتين المرأتين كانتا تنتظران- لضعفهما-حتى يخف الزحام فتسقيان أغنامهما وأن أغنامهما كانمت عطشى تريد أن تذهب إلى مورد الماء مع سائر الماشية فكانت المرأتان تمنعانها من ذلك خشية أن تختلط بغنم الاخرين .. كل هذه الحركة.. وما تنطوي عليه من دوافع نفسية أخصها القرآن العظيم في كلمة واحدة . . وهي: "تذودان" . . وكان من الطبيعي أن يتعجب موسى من تصرف هاتين المرأتين . . لقد رأى الناس يزدحمون حول مورد الماء يسقون ماشيتهم بينما وجد هاتين المرأتين تذودان أغنامهما! .. وسألهما موسى: "ما خطبكما" . . وفي تفسير (ابن عطية) أن موسى استعمل كلمة (الخطب) أي المصاب لأنه رأى المرأتين مغلوبتين على أمرهما وأنه أشفق عليهما .. . وماذا كان ردهما؟. . قالتا : "لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير" . . . وكلمة يصدر هنا -بفتح الميم وضم الدال -من صدر -بفتح الدال- وهى ضد ورد.. أي أنهما لا تسقيان أغنامهما حتى يرجع الرعاء.. . . والرعاء جمع راع . . ومعنى ذلك أنهما اعتادتا لضعفهما على الانتظار حتى ينتهي الرعاة الأقوياء المزدحمون من أخذ حاجتهم من الماء وبعد ذلك تتقدمان هما .. وذلك لأن أباهما كان شيخا ضعيفا طاعنا في السن .. وهنا ظهرت شهامة موسى .. كما ظهرت قوته البدنية الفائقة التي رأيناها في مشاهد سابقة .. تقول الاية الكريمة : "فسقى لهما ثم تولى إلى الظل ". ومعنى أنه سقى لهما ومورد الماء ما زالت حوله أمة من الناس أنه بقوته شق طريقه بينهم مع أغنام المرأتين واحترم الناس قوته ولم يجد واحد منهم في نفسه الشجاعة على التعرض له . . ونحن لا يعنينا في هذا الصدد سوى أنه ساعد المرأتين وسقى لهما على الرغم من ازدحام الناس . . . وبعد ذلك ترسم الآية الحركة التالية في كلمة قليلة وهي "ثم مشى إلى الظل ". ومعنى ذلك أن موسى بعد أن ساعد المرأتين لم يبادلهما أي حديث بل اتجه وهو جائع مرهق متعب ليستريح في ظل هذه الشجره. وماذا حدث بعد ذلك؟.. حدث ما يسميه كتاب القصة السينمائية (السيناريو) بالمزج وهي لفظة معناها الفني طبع عدد من (كادرات) الفلم فوق كادرات أخرى بطريقة توحي بمرور قليل من الوقت بين الحركة السابقة والحركة اللاحقة. وتفصيل ذلك كما يدل عليه بالضبط معنى الآية الكريمة .. أن موسى عليه السلام سار على مهل حتى وصل إلى الشجرة ذات الشوك القصير وجلس في ظلها ثم توجه إلى ربه بالدعاء أن يرزقه ويخرجه من محنته. ومر وقت وجيز - هو الذي يرمز إليه بعملية المزج السينمائي- وإذا بموسى ينظر ويرى من وجهة نظره بداية المشهد التالي الذي تصفه هذه الآية: "فجاءته إحداهما تمشي على استحياء" ما أبدع هذا الوصف . . وما أرقه .. وما أجمله! . . جاءته إحدى المرأتين . . وهي تتجه نحوه في خطوات بطيئة وقد أطرقت برأسها إلى الأرض في خجل وحياء وهي لا تكاد تقوى على أن تنظر إلى وجهه إلا من خلال أهدابها نظرات سريعة خاطفة! .. هكذا رسمت الآية فى كلمات خمس .. بداية هذا المشهد العاطفي العظيم!. ووصفت طريقة مشيتها وصفة حددت بمقتضاه شخصية هذه المرأة ومبلغ حيائها وأدبها . . وحددت بالتالي اللهجة التي قالت بها حديثها الذي وجهته إلى موسى. . "قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا" . . لا بد وأنها قالت ذلك في صوت خافت تتهدجه عاطفة الإعجاب بذلك الرجل القوي الذي ساعدها هي وأختها في صمت ثم تركهما ليجلس وحيدا في ظل الشجرة ..

وكانت هذه الجملة الوحيدة من الحوار في هذا المشهد العاطفي . .. ولكنها على قلة كلماتها تشير في وضوح إلى معان كثيرة منها: أن موسى فهم أن هذه المرأة ذهبت إلى أبيها وحدثته بما فعله موسى وطلبت منه أن يجزيه. إنها بلا شك حدثت بالخير عن موسى حديثا جعل والد المرأة يثق في هذا الرجل المجهول فيرسلها إليه وحيدة دون أختها ليستدعيه. . ان الأخت الأخرى أدركت بذكائها الأنثوي ألا مكان لها في هذه العاطفة فآثرت البقاء إلى جوار أبيها حتى تعود أختها بالرجل .. ولم يقل موسى لها شيئا. . وماذا يقول؟ . . لقد كان يدعو الله منذ لحظات أن ينقذه مما كان فيه من جوع وإرهاق! إنه نبي الله الذي اختاره ليهدي بني إسرائيل .. ولكن حكمة الله تعالى أرادت أن تبلوه وتختبره بتلك الشدائد التي كابدها .. وأخيرا رزقه الله نتيجة لمجهوده وعمله وشهامته. وبعد ذلك ياتي انتقال إلى المشهد التالي . وهو أيضا من نوع (المزج الطويل) . . إن موسى يقابل والد المرأة ويطمئن إليه ويصارحه بكل ما حدث له في مصر. وتظهر حكمة الله الذي يرعى برحمته عباده المؤمنين. إذ يتضح أن ذلك الشيخ من المؤمنين بالله فيقول لموسى: "لا تخف نجوت من القوم الظالمين " ويستمر الخط العاطفي الجميل عندما تتقدم نفس الفتاة الخجول من أبيها الشيخ وتقترح عليه اقتراحا لعل الشيخ كان يتوقعه منها إذ قالت لأبيها: "يا أبتي استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين" لقد أضافت الفتاة صفة أخرى إلى موسى . . إننا نعرف عنه القوة.. وهي الأخرى لمست بنفسها هذه القوة حينما شق طريقة بين الرعاة . . ولكن . . لماذا وصفته بالقوي الأمين؟ .. المعنى الواضح من ذلك أن موسى كان أمينا عليها. لقد عادت إليه عند الشجرة وحدها لكي تستدعيه لمقابلة أبيها . . وعلى الرغم من شبابها وجمالها كان موسى في تصرفه معها نبيلا شريفا . . . وقد سار الاثنان سويا من مكان الشجرة حتى بيت أبيها ولا بد أن هذا التصرف النبيل الشريف من موسى قد تأكد مرة أخرى طوال الطريق ... وهذه القصة على الرغم من قصرها تعتبر مثلا أعلى للقصة العاطفية المسماة Sentimental Story، إذ رأينا الفتاة الشريفة الخجول تعجب بالبطل القوي البنية العفيف النفس وتقنع أباها الشيخ باستئجاره ويفهم الأب من ذلك أن ابنته أعجبت بالرجل المؤمن الشهم الشريف الذي لا يعيبه أي شيء سوى أنه فقير لا يملك شروى نقير .. فيقوك له الأب -كما ذكرت الآية الكريمة : " قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين." ولا يعقل أن يقول الأب ذلك القول إلا إذا كان قد آنس من ابنته ميلا إلى موسى كما لمس في موسى هذا الميل نفسه. ولم يكن غريبا على الأب أن يبدأ هو بعرض الزواج إذ كانت هذه السنة قائمة كما يقول أغلب المفسرين. ومن المعروف أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عرض ابنته حفصة على أبي بكر وعثمان بن عفان رضي الله عنهما وأن حفصة عرضت نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم. وأنه من المستحسن والمرغوب فيه أن يعرض الرجل وليته على الرجل الصالح إذا استشعر الرغبة المتبادلة بينهما فى الزواج. وبزواج موسى من الفتاة تنتهي القصة بالنهاية السعيدة التى يسمونها الآن (Happy End) . ولكنها تعتبر نهاية مؤقتة-إذا صح هذا التعبير . وقصة موسى عند وروده ماء مدين وزواجه لا تعتبر قصة عاطفية فحسب بل هي وفقا لما سبقها من أحداث -تعتبر قصة كفاح. وقصص الكفاح تسمى أحيانا بقصص النجاح التي يعبرون عنها Success Stories وهي إحدى أنواع القصص المتعارف عليها في القصة الحديثة وتعتبر من القصص التي تعتني برسم شخصية البطل، لأنها تصور كفاح البطل من أجل أمل يسعى إلى تحقيقه يؤمن به كل الإيمان ويدفعه هذا الإيمان إلى احتمال ما يصادفه من مشاق والتغلب على ما يقابله في طريقه من عقبات . . وبعض قصص الكفاح تنتهي بالنجاح وتحقيق الامال. إلا أن بعضها تد ينتهي بموت البطل قي سبيل تحقيق آماله كما حدث مثلا في قصة (جان دارك ) التي حررت فرنسا من الانجليز ثم حكموا عليها بالإعدام حرقا. وقصة موسى عليه السلام انتهت هذه النهاية السعيدة بزواجه .. . ولكن كفاحه لم ينته بعد. وهذا أمر طبيعي يجعل قصة موسى في مجموعها قصة صادقة من واقع الحياة الإنسانية. تلك الحياة التي أراد الله أن يجعل منها سلسلة متصلة من الكفاح والجهاد. أما قصص الكفاح التي يكتبها المؤلفون فإنهم يختارون نهايتها السعيدة إرضاء للقراء أو المتفرجين ويصوغون هذه النهاية وكأنها خاتمة كل شيء ..