سؤال كبير تناوله كثير من المفكرين والفلاسفة في العالم، ليقولوا غالباً آراءهم الشخصية من خلال معرفتهم وخبراتهم الذاتية، ولكني لن أتناول الموضوع من أجل التقول بما أظن منطلقاً من ذاتي وإنما لأقول الحقيقة مستنداً لكتاب حقيقي عليه برهان أنه من خالق الكون والناس أجمعين، وهو الله ربي ورب العالمين.
والله تعالي لم يقصص القصص في القرآن بغرض التسلية (حاشا لله وكلا ونستغفر الله العظيم)، وإنما قد قص علينا تلك القصص لتكون عبرة لأولي الألباب، ولِحِكَم أخري يعلمها هو وحده، وقد روي سبحانه لنا قصة إبليس اللعين في القرآن الكريم في سور شتي وبطرق مختلفة تؤدي إلي مضمون واحد (والله تعالي وحده أعلم بالحكمة من اختلاف تلك الطرق) ولكن مما لا شك فيه أنها تفيد كثيراً في الحياة العملية وتطبيقاتها علي شياطين الإنس أيضاً بالإضافة إلي شياطين الجن علي السواء كما سوف نري في هذا البحث المتواضع.
عندما تحدث سبحانه عن إبليس الأب الروحي الممثل لكل شياطين الجن في الأرض تكلم عن مخلوق لديه علم وعقل، ولكن الكبر قد دَخَل إلي نفسه فكفر حسداً من آدم من قبل أن يعلم سبب التفضيل ورَفَضَ الطاعة والسجود له في الأرض عندما أمره ربه بالسجود واضمر في نفسه الشر له ولذريته من بعده إلي يوم يبعثون (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) (الكهف 50)، وبعد أن علمنا أن إبليس من الجن لا بد أن نعرف من هم الجن: "فالجن هم مخلوقات أرضية خلقهم الله تعالي من قبل أن يخلق الإنسان من الطاقة" (طاقة النار) (وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ) (الحجر 27).
والله سبحانه وتعالي يحدثنا عن خلق آدم وكيف فسق إبليس عن أمر ربه في الآيات التاليات: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ*فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ*فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ*إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ*قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ*قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ*قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ*وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ*قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ*قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ*إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ*قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ*إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ*قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ*إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ*وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ*لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ) (الحجر 28-44).
ونلاحظ مما تقدم:
1- أن إبليس من الجن وليس من الملائكة.
2- إبليس عنده علم، إذ يعرف حقائق كثيرة تعلمها من رب العالمين.
3- إبليس تأبط شراً وأضمر حقداً عظيماً للإنسان سوف يرافقه إلي يوم القيامة، ونوي وعمل بحسب نيته لإضلال الإنسان، وأن لا يرشده إلي خير ما أمكن، وعاهد نفسه علي ألا يكل ولا يمل من السعي لإضلال الإنسان عن الحق أينما كان علي قدر طاقته واستطاعة ذريته من بعده، وسارت ذريته علي منهج أبيهم في الأرض وهؤلاء من يطلق عليهم الجن الكافر أو الأبالسة من جمع أباليس.
وهنا يتبادر إلي الذهن سؤال طبيعي:
هل كل الجن مثل إبليس جعلوا مهنتهم في الأرض الشر والفساد والإفساد؟
إن في الجن فريق آخر يؤمن بالله تعالي ويوحد الله ويقرأ القرآن ولا يحقد علي أحد، ويحب المؤمنين من الناس، وممثلوا هذا الفريق من الجن يكونون علي استعداد لمؤازرة المؤمنين من الإنس وكشف مكايد الكافرين من بينهم من الذين اصطلحنا أن نسيمهم بالشياطين، وهذا يتضح بجلاء عندما نقرأ سورة الجن من الآية (1-28)، ونلاحظ أن هذه السورة التي نزلت من السماء باسم الجن تخبر الإنسان بكل ما يلزمه من الحقائق لمعرفة هذا المخلوق الذكي المرافق له في هذه الأرض....
والمسلم إذا شاء أن يخرج من كهفه العظيم الذي حُشِر فيه من قبل سلاطين الأرض مستعيناً بشياطين الإنس والجن معاً عليه فقط أن يتمسك بكتاب الله وبإيمانه بربه، بعد ذلك سوف يكتشف أنه كان في ضلال مبين بسعي دؤوب من تحالف شياطين الإنس والجن الذين لا سلطة حقيقية لهم علي الإنسان.....
فمن هم شياطين الإنس؟؟
إلي الآن لم نتعرف إلا علي الفريق الأول من الجن الذين كفروا وتخصصوا في إضلال الإنس بالذات من ذرية إبليس، وما زال علينا أن نتعرف علي الفريق الأهم والأساسي بالنسبة للإنسان وهم فريق شياطين الإنس....
إن العقل يقول: علي العاقل الباحث عن الأمن والسلام أن يتعرف علي كل العوامل المؤدية إلي غايته، ويبحث عن كل الأعداء المحيطين به، ويمنعونه من تحقيق تلك الغاية، والله تعالي لم يترك صغيرة أو كبيرة تهم الإنسان المؤمن الباحث عن الحق علي سبيل العلم إلا وذكرها له الرحمن في كتابه المبين، والذي يعتمد ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه فإنه سوف ينجو من الضلال والإضلال بإذن الله تعالي طالما بقي إيمانه حقيقياً وصادقاً، وطالما لم يستبدل كتاب الله بغيره أو لم يشرك بذلك الكتاب كتباً أخري مهما كانت الأسباب والذرائع، وطالما بقي سعيه لوجه الله تعالي وحده إحقاقاً للحق وسعياً لتحقيقه حباً في الله وفي المؤمنين الصادقين المؤمنين الخاشعين في القرآن الكريم، ولم يذكر سبحانه وتعالي أنه اختار من ذرية إبراهيم ذرية يعقوب الذي نجد له في القرآن اسما آخر مثل الكثير من رسل الله، وكان اسمه أيضاً إسرائيل وأبناؤه: (بني إسرائيل).
والقرآن الكريم قد ركز تركيزاً كبيراً علي قصة بني إسرائيل بالذات ليس تكريماً لهم، ولا دعوة لإدخالهم للإسلام والإيمان، والله سبحانه وتعالي يعلم قبلنا أنهم أبعد عن الإسلام والإيمان، ويعلم أن أغلب قلوبهم قد تحجرت علي الحقد والحسد وابتعدت عن الحق والخير في الأرض، بل أن رب العالمين يسخر من الذين يدعونهم للحق والإيمان (أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (البقرة 75).
والله تعالي أعلم بقلوبهم منا جميعاً إذ يقول وهو يخاطبهم (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (البقرة 74).
طبعاً فكما أن للجن فريقان فريق مؤمن بالله تعالي وفريق قد كفر حسداً من آدم، كذلك بني إسرائيل فهم فريقان، فريق منهم من أمثال الذين حسدوا يوسف فتآمروا علي قتله أو إبعاده عن أبيه، كذلك هذا الفريق حسد أبناء إسماعيل وذريته فكفروا من بعد علم بدليل قول الله تعالي: (وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة 109).
والله تعالي يقول عنهم (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) (البقرة 159)، كما أن أهل الكتاب قد حرفوا كتابهم السماوي وكتبوه كما يشاءون ويرغبون، وعندما وجدوا أن الذبيح الذي افتداه الله تعالي هو اسماعيل بدلوا اسمه في كتابهم حسداً وجعلوه إسحاق كما تقرأونه في توراتهم اليوم، والله تعالي يعلم كل ما فعلوا وما الله بغافل عما يفعلون (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ) (البقرة 79).
وهكذا نكتشف من كتاب الله وحده أن سبب تركيز الرحمان علي قصة بني إسرائيل بالذات حتي يتعرف المؤمنون علي أعداء الإنسانية في الأرض من الذين تحولوا إلي شياطين الإنس وهم فريق من بني إسرائيل تحالفوا مع إبليس وذريته لإضلال الإنسان في الأرض..... ونجد أن هذا الفريق من أهل الكتاب هم المؤسسون للجمعيات السرية الماسونية في العالم منذ عام (1943 بعد المسيح) علي يد حيرام أبيود ومساعده مؤات لافي الذي وقع عليه الأخير في 26 حزيران الموافق لنفس العام في مدينة القدس.
إن الإنسان لن ينجح حتماً في التخلص من الشياطين إن لم يعرف أولاً من هم الشياطين وكيف يمكنه مجابهتهم وما يستخدمونه من أسلحة فكرية لأن الشيطان لا ينظر للإنسان إلا من خلال فكره فيسيطر عليه ويستخدمه لمآربه ممرغاً أنفه في دنسات الأرض، وهو يشرب نخب النصر كلما حطم أنف إنسان كان يؤمن بالله تعالي من قبل، فيمرغه وهو يضحك في نجاسات الشهوات بطناً لظهر وظهراً لبطن.
والله تعالي يخبرنا جميعاً منذ البداية بعداوة إبليس للإنسان (وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) (البقرة 36)، واهبطوا هنا ليس معناها النزول من السماء، فالله سبحانه قد قال لنا أصلاً أنه قد خلق آدم من تراب هذه الأرض ولم يخلقه في السماوات وكذلك إبليس هو من مخلوقات الأرض، ولكن الهبوط هنا مجازياً لكل من شاءت نفسه الانحدار والإخلاد للأرض وشهواتها دون أن يرفع وجهه إلي السماوات متجهاً للسمو بنفسه والعلو بها عن كل النجاسات.
وكم حذر سبحانه الإنسان من إتباع خطوات الشيطان (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) (البقرة 168)، ولأهمية هذه الموعظة نجد أن الله تعالي يكررها ثلاث مرات في ثلاثة أماكن مختلفة من كتابه المبين، ويقرر سبحانه عداوة الشيطان الكيدية للإنسان (الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) (يوسف 5)، ووظيفة الشيطان هي إضلال المؤمن بالله إضلالا مبيناً لا شك فيه (قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ) (القصص 15)، ومعني الضلال المبين هو ضلالاً حقيقياً.
وطالما علمنا من رب العالمين بعداوته الأكيدة يجب علينا إذن ألا نواليه ولا نصادقه ولا نصاحبه، بل نعامله علي أساس أنه عدو حقيقي وبشكل دائم (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) (فاطر 6).
وعبادة الشيطان هي طاعته، لذلك ينبهنا سبحانه ألا نطيع شيطاناً (لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) (يس 60)، والشياطين عادة حلفاء دائمون للسلاطين (الطاغوت في الأرض)، فنبهنا سبحانه ألا نطيع ونعبد الطاغوت أيضاً بل نكفر به ونعبد الله ونطيعه وحده (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ) (البقرة 256).
أما الذين كفروا بالله فقد والوا الطاغوت وعبدوا الشياطين من دون أن يعلموا (اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة 257).
ونجد أن شياطين الإنس والجن هم أعداء الرسل والأنبياء والصالحين (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ) (الأنعام 112)، كما نجد أن شياطين الإنس ومن بني إسرائيل أصبحت وظيفتهم الدائمة في الأرض قتل الأنبياء والرسل والصالحين (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (البقرة 91)، (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ) (البقرة 61).
مع كل ذلك فإن الله تعالي ينبهنا إلي وجود فئة أخري من اليهود مؤمنة بالله ولا تفعل الشر ولا يعجبهم ما يفعله الفريق الأول منهم وعن هؤلاء يقول سبحانه في الآية التي بعدها مباشرة (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة 62).
لنستمع إلي الإمام أبي حامد الغزالي الذي ولد في 445 هـ ماذا يقول (فأدلة الطريق هم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، وقد شغر منهم الزمان ولم يبقي إلا المترسمون "رجال الدين الرسميين الذين يعملون في خدمة السلطان"، وقد استحوذ علي أكثرهم الشيطان واستغواهم الطغيان وأصبح كل واحد بعاجل حظه مشغوفاً، فصار يري المعروف منكراً والمنكر معروفا حتي ظل علم الدين مندرساً، ومنار الهدي في أقطار الأرض منطمساً، ولقد خيلوا إلي الخلق أن لا علم إلا فتوي حكومة تستعين به القضاة علي فصل الخصام عند تهاوش الطغام، أو جدل يتدرع به طالب المباهاة إلي الغلبة والإفحام أو سجع مزخرف يتوسل به الواعظ إلي استدراج العوام إذا لم يروا ما سوي هذه الثلاثة مصيدة للحرام وشبكة للحطام) "عن كتاب إحياء علوم الدين المجلد الأول ص 2 مجلد الفكر 1975".
إن حقيقة هذا النص تقول أن ما يراه هذا المفكر من واقعه المرير لكنه لا يدرك متي وأين حصل الإنحراف في المسار حتي بلغت الأمور هذا المبلغ من السوء أو أنه لا يستطيع أن يقول أكثر مما قال فهو يكتب كتابه في ظل سلطان يعتمد في حكمه في شياطين الإنس والجن معاً.
وهكذا أصبحت الصورة واضحة وهي أن أغلب رجال الدين في بلاد المسلمين كان اعتمادهم في الرزق علي السلاطين وكبار الشياطين، فلم يخرج من علماء المسلمين الأتقياء الذين هربوا من السلاطين ومن الشياطين إلا قلة قليلة لم يكن لهم وزن كبير، إذ لم يؤثروا في الحياة الإسلامية العامة أصلاً،وإن كتبوا بعض الكتب فلم يؤثروا علي أفكار المسلمين إلا بشكل سطحي.
والتأثير كله كان لعلماء السلاطين ولوعاظ المساجد من تلاميذ العلماء المذكورين علماء السوء الذين يقولون ويحرفون إرضاء لإولي الأمر ورغبة في نوال الدينا، وقد عاشوا كالملوك في قصور فيها المئات من الجواري ولهم نصيب من عذراوات حور العين اللائي كن يرسلن إليهم من السبي بحجة نشر الإسلام بالسيف وتبليغه للعالمين، هذه حقائق يتعامي عنها المسلمون تماماً، كما تفعل النعامة عندما تخفي رأسها في الرمل.
والله تعالي قد قال لنا الحقيقة في كتابه وأخبرنا أنه يفتننا بالشياطين، بل ويفتتنا دائماً في كل عام مرة أو مرتين (أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ) (التوبة 126)، (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت 2)، وعندما ترك موسي أصحابه من الذين رافقوه خلال جهاده الطويل، ورأوا كل معجزات الله تعالي علي يديه ثم غاب عنهم أربعين ليلة، فإن شيطان واحد من الإنس وهو السامري استطاع أن يحرفهم عن الإيمان وأشركوا بالله وعبدوا العجل الذهبي، وقد كانت فتنة لهم من الله تعالي قالها سبحانه علي لسان الرسول موسي عليه السلام (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ) (الأعراف 155).
أليس من السذاجة بعد كل هذا الذي علمناه من رب العالمين عن الفتنة لكل خلقه من المؤمنين أن نظن وحدنا نحن المسلمين أن الله تعالي قد توقف عن فتنتنا ألف وأربعمائة عام، وحجب عنا الشياطين وشر فتنتهم إلي هذا اليوم؟.....
(وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ*وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ) (البقرة 101-102)، وصدق الله العظيم وصدق رسوله المبلغ الأمين