ما هي حقيقة الجنـة ؟.
ماذا تعني كلمة (جنَّة) وما هي حقيقة الجنَّة و ما معنى كلمة {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}.
نريد أن نبيِّن ذلك بصورة يتجلَّى فيها الإكرام الإلهي والخلود في النعيم الأبدي فنقول:
جاء في بعض الأحاديث القدسية التي تحدَّث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لسان الحضرة الإلهية ما يلي:
«كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أُعرف، فخلقت الخلْق وعرَّفتهم بي، فبي عرفوني»
قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (56) سورة الذاريات
وقد وافق على صحة الحديث الشيخ علي ملا القاري مستنداً إلى تأويل ابن عباس رضي الله عنه لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}: أي: ليعرفوني، وقد اعتمده الصوفية وابن عربي وبنوا عليه أصولاً.
والكنز: هو الشيء الثمين المخبَّأ، فالله تعالى هو الكنز وقد خلق الخلْق ليعرِّفهم بذاته العليَّة ويُشهدهم عظيم جماله وعالي كماله ليحصل لهم النعيم الأبدي المقيم بشهود هذا الكمال والجمال.
وهكذا فالنظر إلى حضرة الله تعالى هو أعظم ما يُكرم به الله تعالى عباده المؤمنين في الجنَّة، بل هو حقيقة الجنَّة. قال تعالى:
[وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ] سورة القيامة (22-23).
ودليلاً على أن النظر إلى حضرة الله تعالى هو حقيقة الجنَّة نقول:
إن الإنسان إنما يتنعَّم في هذه الدنيا إذا شاهد المخلوقات الجميلة، ويستغرق في السرور بمشاهدتها كلما كانت جميلة رائعة فكيف يكون سروره إذا هو نظر إلى جمال خالقه الذي خلق الكون وخلق ما فيه من المخلوقات الجميلة؟. وهل النظر يا تُرى إلى الخالق أجمل، أم النظر إلى المخلوقات التي تستمد جمالها منه تعالى، فهي أثر من آثاره وجمالها نقطة من بحور جماله؟.
تحليل معنى كلمة (الجنَّة):
ولكن لماذا يسمَّى النعيم النفسي الذي يشاهده الإنسان عند مشاهدة جمال خالقه جنَّة؟.
أقول: إن كلمة (جنَّة) مأخوذة من جنَّ بمعنى ستر وأخفى. تقول: جنَّ الليل، ومنه المجنّ وهو الترس يستر به المحارب جسمه من ضربة عدوه، ومنه الجنين وهو الطفل ما دام مستوراً في بطن أمه.
وبناء على ما قدَّمناه نقول: إن كلمة (جنَّة) إنما تعني النعيم الخفي المستور الذي يجده الإنسان في قرارة نفسه ولا يطَّلع عليه أحد سواه، فإذا نحن جلسنا في حديقةٍ كل شيء فيها رائع وجميل، وإذا نحن تذوَّقنا في نفوسنا هذا الجمال، فهذا النعيم الذي نجده في نفوسنا إثر مشاهدتنا، ذلك النعيم الخفي المستور نسمِّيه (جنَّة).
وهكذا فقد نجلس في حديقة (جنينه) واحدة وأمامنا شيء واحد ولكن نعيم كل امرئ وجنَّته على حسب حاله ومشاهدته.
وزيادة في إيضاح هذه النقطة نستطيع أن نسوق المثال الآتي فنقول:
هب أن أناساً دُعوا لدى أمير من الأمراء إلى مأدبة عليها صنوف الفاكهة وأنواع منوَّعة من الأطعمة اللذيذة، فهل تظن أن جميع المدعوين يتذوَّقون ذوقاً واحداً ويجدون لذة واحدة؟.
لا شك أن لذة كل امرئ منهم تتناسب مع صحته وحالته النفسية. كما أن حُظوة كل امرئ منهم لدى صاحب المأدبة وسروره بمجالسته يتناسب مع قربه المعنوي منه ومكانته لديه.
إن هذه الأمثلة تنطبق كل الانطباق على حال المؤمنين في الآخرة، فهم ينظرون إلى جمال الحضرة الإلهية، لكن نعيم كل واحد منهم وجنَّته إنما تتناسب مع أعماله التي قدَّمها في الدنيا فكلما كانت أعمال الإنسان عالية أكثر كان إقباله على ربِّه أعظم وكان نعيمه في مشاهدته أكبر وجنَّته أعلى وأجمل.
على أن المؤمن في الدار الآخرة لا يقف عند منزلة واحدة لا يجاوزها، بل إنما هو دوماً في ارتقاء، فمن حال إلى حال أعلى ومن مشاهدة إلى مشاهدة أسمى، وإن شئت فقل من جنَّة إلى جنَّة أرقى. فكلما نظر إلى جمال خالقه نظرة حصل في نفسه نعيم عظيم جداً، ثم ينظر إلى خالقه نظرة ثانية فيتنعَّم بها أكثر من الأولى، ثم ينظر ثالثة ورابعة وهكذا إلى ما لا نهاية وكل نظرة أعظم جمالاً، وسروراً أعلى من النظرة السابقة.
وبما أنَّه ليس لحضرة الله تعالى حدٌّ، وبما أن جماله ليس له نهاية، فهكذا نعيم المؤمنين في الآخرة ليس له نهاية والجنَّة ليس لها نهاية.
أما كلمة {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}: فليس معناها قاصراً على أنهار من الماء، بل إنها تعني الخيرات الدائمية المتواردة على الإنسان بشكل متواصل كالنهر الجاري الذي لا ينقطع.
فالفواكه والأثمار وصنوف الطعام والشراب، والحور العين وأعني بهن زوجات المؤمنين اللاتي تحار بهنَّ الأعين لجمالهن. أقول صنوف هذا النعيم كلها إنما تجري على الإنسان كالنهر المتواصل دون أدنى انقطاع، لكن هذه الخيرات كلها أقل درجة طبعاً من ذلك النعيم بمشاهدة حضرة الله. وهذا ما نفهمه من كلمة {مِنْ تَحْتِهَا}.
بقي علينا أن نبيِّن الكيفية التي يتمكَّن معها الإنسان يومئذ من الارتقاء من حال إلى حال أعلى ومن جنَّة إلى جنَّة أعلى وأرقى فنقول:
رأينا أن نعيم كل امرئ في الجنَّة إنما يتناسب مع أعماله التي قدَّمها في الدنيا، فكلما كانت أعمال الإنسان أعلى كان إقباله على ربِّه أعظم، والعمل وحده هو السبب الذي يجعل الناس يتفاوتون ويتفوَّق بعضهم على بعض في النعيم.
ولكن كيف يستطيع الإنسان أن يرقى ذلك الرقي المتواصل الذي لا يتناهى متنقلاً من جنة إلى جنَّة أعلى وأسمى؟.
أقول: إن الإنسان في هذه الدنيا له (فكر وعقل)، فبالفكر يتعرَّف إلى الوقائع ويتذكَّر ما قام به من أعمال وما جرى له من حوادث.
أما العقل فيشهد به حقائق الأعمال وقِيَمَها الحقيقية التي تؤهِّله لأن يُقبل بها على الله. فإذا كان يوم القيامة تعطل الفكر، إذ لم يبقَ له ضرورة وانكشفت الحقائق للعقل واضحة جليَّة، وهناك تمرُّ على الإنسان سلسلة أعماله التي قام بها في دنياه عملاً بعد عمل. وكلما رأى عملاً من أعماله أقبل به على خالقه فارتقى من حال إلى حال وهكذا حتى تمرُّ به جميع أعماله فتعود السلسلة من جديد.
ونظراً لعدم وجود الفكر: عندما تمرُّ به الأعمال من جديد فيعقلها ويرقى بها وهو لا يذكر أنه رآها من قبل، وذلك إلى ما لا نهاية فهو متواصل الإقبال، متزايد في الصحة النفسية والتنعُّم بمشاهدة ذي الجلال والجمال، متدرِّج في النعيم بما يُقدَّم له من فواكه وثمرات وذلك ما أشارت إليه الآية الكريمة في قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (25) سورة البقرة.
{كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا}: في الجنة.
{مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ}: منذ مدّة قريبة في الدنيا.
{وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً}: في اللذائذ، لكنه أعلى ممَّا سبق.
فلهم في كل لحظة نعيم، ونعيم كل لحظة أرقى من سابقتها، ثم بيَّن تعالى سرور أهل الجنَّة بأزواجهم فقال تعالى:
{وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ}: من كل شائبة.
{وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}: أنت لم تأتِ للدنيا للأكل والشرب كالحيوان، بل لترقى وتعمل.
وتريد كلمة {مُطَهَّرَةٌ} أن تبيِّن لنا صفة أزواج أهل الجنَّة. وكلمة {مُطَهَّرَةٌ} مأخوذة من طهَّر. تقول: طهَّر فلان الإناء أو الثوب فهو طاهر، أي: أزال عنه ما به من جرثوم. وطهَّر الله نفس فلان، أي: أزال ما بها من خبث.
وهكذا فالمراد من كلمة {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ}: أي: مطهَّرة من كل خبث ودرن، فليس فيها شيء مما يحول بينها وبين الإقبال على الله. وبما أن الإقبال على الله يصبغ النفس بصبغة الكمال الإلهي لذلك ينعم أهل الجنة بالنظر إلى أزواجهم نعيماً حقيقياً. وحيث أن نفوسهم دوماً مترقية بالإقبال فكذلك جمالهم دوماً في ازدياد.
أما كلمة {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} فإنما تشير هنا إلى سكون النفس واطمئنانها بما تجده من الحياة الطيِّبة في الجنَّة. وزيادة في تفصيل معنى هذه الكلمة نقول:
إن كلمة {خَالِدُونَ} مأخوذة من خَلَدَ بمعنى: سكن إلى الشيء واطمأن به. تقول: خَلَدَ المسافرُ إلى ظل الشجرة من حرِّ الصحراء، أي: سكن واطمأن بما يجده في فيئها من ظل ظليل وارتياح.
وهكذا ففي الدار الآخرة إنما يخلد المؤمن في الجنَّة، أي: تسكن نفسه مطمئنة بما تجده في ذلك التجلي الإلهي الذي يغمرها من حياة طيِّبة وأنس ونعيم فهو لا يبغي عنه حولاً ولا يرضى عنه بديلاً.
ولعلَّك تقول: إذا كان الخلود هو اطمئنان النفس وسكونها إلى الشيء فكيف يخلد أهل النار في النار فنقول:
قد يُصاب الإنسان في هذه الدنيا بألم من الآلام أو علَّة من العلل ولا يجد دواء لعلّته إلاَّ الكي بالنار ولذلك تراه يسكن بين يدي من يكويه بالنار ويؤثر حريقها وشديد لذعها على علَّته وآلامه. وكذلك حال أهل النار في النار فهم يخلدون في النار ويؤثرون عذاب الحريق تخلُّصاً من آلام الخجل والعار الذي يلازم نفوسهم.
وقد بيَّن لنا ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث شريف كنا أوردناه من قبل وهو قوله صلى الله عليه وسلم:
«إن العار ليلزم المرء يوم القيامة حتى يقول: يا رب لإرسالك بي إلى النار أيسر عليَّ مما ألقى وإنَّه ليعلم ما فيها من شدة العذاب». » الجامع الصغير /2074/ (ك) عن جابر (ح).