قال الحافظ ابن عساكر : هو سليمان بن نبي الله بن نبي الله . جاء في بعض الآثار أنه دخل دمشق ، قال الله تعالى :{ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ }
أي : ورثه في النبوة والملك ، وليس المراد ورثه في المال ، لأنه قد كان له بنون غيره ، فما كان ليخص بالمال دونهم . ولأنه قد ثبت في الصحاح من غير وجه عن جماعة من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
(( لا نورث ما تركنا فهو صدقة )) . علمه بمنطق الطير و الحيوان
وقال : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ } الآية .
يعني أنه عليه السلام كان يعرف ما يتخاطب به الطيور بلغاتها، ويعبر للناس عن مقاصدها وإرادتها .
حدثني أبو مالك قال : مر سليمان بن داود بعصفور يدور حول عصفورة ، فقال لأصحابه : أتدرون ما يقول ؟
قالوا : وما يقول يا نبي الله ؟ قال : يخطبها إلى نفسه ويقول : زوجيني ، أسكنك أي غرف دمشق شئت .
قال سليمان عليه السلام : لأن غرف دمشق مبنية بالصخر لا يقدر أن يسكنها أحد، ولكن كل خاطب كذاب .
وكذلك ما عداها من الحيوانات وسائر صنوف المخلوقات والدليل على هذا قوله بعد هذا من الآيات :{وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } . أي : من كل ما يحتاج الملك إليه من العدد والآلات ، والجنود ، والجيوش ، والجماعات من الجن ، والإنس ، والطيور والوحوش ، والشياطين السارحات ، والعلوم والفهوم ، والتعبير عن ضمائر المخلوقات ، من الناطقات والصامتات .
كما قال تعالى : { وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ } .
يخبر تعالى عن عبده ، ونبيه ، وابن نبيه سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام ، أنه ركب يوماً في جيشه جميعه من الجن والإنس والطير ، فالجن والإنس يسيرون معه ، والطير سائرة معه تظله بأجنحتها من الحر وغيره ، وعلى كل من هذه الجيوش الثلاثة وزعة ، أي : نقباء يردون أوله على آخره ، فلا يتقدم أحد عن موضعه الذي يسير فيه ، ولا يتأخر عنه . قال الله تعالى : { حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ }. فأمرت ، وحذرت ، وأعذرت عن سليمان وجنوده بعدم الشعور .
والمقصود أن سليمان عليه السلام فهم ما خاطبت به تلك النملة لامتها من الرأي السديد ، والأمر الحميد ، وتبسم من ذلك على وجه الاستبشار ، والفرح والسرور ، بما أطلعه الله عليه دون غيره .
ولهذا قال :{ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ } . فطلب من الله أن يقيضه للشكر على ما أنعم به عليه وعلى ما خصه به من المزية على غيره ، وأن ييسر عليه العمل الصالح ، وأن يحشره إذا توفاه مع عباده الصاحين . وقد استجاب الله تعالى له .
والمراد بوالديه : داود عليه السلام وأمه ، وكانت من العابدات الصالحات ، عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( قالت أم سليمان بن داود : يا بني لا تكثر النوم بالليل ، فإن كثرة النوم بالليل تدع العبد فقيراً يوم القيامة )) .
عن الزهري : أن سليمان بن داود عليه السلام خرج هو وأصحابه يستسقون ، فرأى نملة قائمة رافعة إحدى قوائمها تستسقي ، فقال لأصحابه : ارجعوا فقد سقيتم ، إن هذه النملة استسقت فاستجيب لها .
قال ابن عساكر : وقد روي عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( خرج نبي من الأنبياء بالناس يستسقون الله ، فإذا هم بنملة رافعة بعض قوائمها إلى السماء فقال النبي ارجعوا فقد استجيب لكم من أجل هذه النملة )) .
وقال السدي : أصاب الناس قحط على عهد سليمان عليه السلام ، فأمر الناس فخرجوا ، فإذا بنملة قائمة على رجليها ، باسطة يديها ، وهي تقول : اللهم إنا خلق من خلقك ، ولا غناء بنا عن فضلك .
قال : فصب الله عليهم المطر .
* قصة بلـقيس :
قال تعالى : { وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ }.
يذكر تعالى ما كان من أمر سليمان والهدهد ، وذلك أن الطيور كان على كل صنف منها مقدمون ، يقدمون بما يطلب منهم ، ويحضرون عنده بالنوبة ، كما هي عادة الجنود مع الملوك .
وكانت وظيفة الهدهد على ما ذكره ابن عباس وغيره أنهم كانوا إذا أعوزوا الماء في القفار في حال الأسفار يجيء فينظر له هل بهذه البقاع من ماء ، وفيه من القوة التي أودعها الله تعالى فيه أن ينظر إلى الماء تحت تخوم الأرض ، فإذا دلهم عليه حفروا عنه واستنبطوه وأخرجوه واستعملوه لحاجتهم ، فلما تطلبه سليمان عليه السلام ذات يوم فقده ، ولم يجده في موضعه من محل خدمته .{ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ }
أي : ماله مفقود من ههنا ، أو قد غاب عن بصري فلا أراه بحضرتي .
{ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً } توعده بنوع من العذاب ، اختلف المفسرون فيه ، والمقصود حاصل على كل تقدير .
{أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} أي : بحجة تنجيه من هذه الورطة .
قال الله تعالى : { فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ } أي : فغاب الهدهد غيبة ليست بطويلة ثم قدم منها { فَقَالَ } لسليمان { أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ } أي : اطلعت على ما لم تطلع عليه { وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ }أي : بخبر صادق { إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيم ٌ}.
يذكر ما كان عليه ملوك سبأ في بلاد اليمن من المملكة العظيمة ، والتبابعة المتوجين ، وكان الملك قد آل في ذلك الزمان إلى امرأة منهم ابنة ملكهم ، لم يخلف غيرها ، فملَّكوها عليهم .
وذكر الثعلبي وغيره أن قومها ملكوا عليهم بعد أبيها رجلاً ، فعم به الفساد ، فأرسلت إليه تخطبه ، فتزوجها فلما دخلت عليه سقته خمراً ، ثم حزت رأسه ، ونصبته على بابها ، فأقبل الناس عليها ، وملكوها عليهم ، وهي بلقيس بنت السيرح ، وهو الهدهد ، وقيل : شراحيل بن ذي جدن .
وكان أبوها من أكابر الملوك ، وكان يأبى أن يتزوج من أهل اليمن ، فيقال : إنه تزوج بامرأة من الجن اسمها ريحانة بنت السكن ، فولدت له هذه المرأة ، واسمها تلقمه ، ويقال لها بلقيس .
وقوله : { وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } أي : مما من شأنه أن تؤتاه الملوك .
{ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } يعني : سرير مملكتها كان مزخرفاً بأنواع الجواهر ، والآلي ، والذهب ، والحلي الباهر .
ثم ذكر كفرهم بالله ، وعبادتهم الشمس من دون الله ، وإضلال الشيطان لهم ، وصده إياهم عن عبادة الله وحده لا شريك له ، الذي يخرج الخبء في السموات والأرض ، ويعلم ما يخفون وما يعلنون أي : يعلم السرائر ، والظواهر من المحسوسات والمعنويات .
{ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ }.
أي : له العرش العظيم الذي لا أعظم منه في المخلوقات ، فعند ذلك بعث معه سليمان عليه السلام ، كتابه يتضمن دعوته لهم إلى طاعة الله ، وطاعة رسوله ، والإنابة والإذعان إلى الدخول في الخضوع لملكه وسلطانه ، ولهذا قال لهم : { أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ } أي : لا تستكبروا عن طاعتي وامتثال أوامري { وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } أي : وأقدموا علي سامعين مطيعين ، بلا معاودة ولا مراودة .
فلما جاءها الكتاب مع الطير ، ومن ثم اتخذ الناس البطائق ، ولكن تلك البطاقة كانت مع طائر سامع مطيع فاهم عالم بما يقول ويقال له ، فذكر غير واحد من المفسرين وغيرهم ، أن الهدهد حمل الكتاب وجاء إلى قصرها فألقاه إليها ، وهي في خلوة لها ، ثم وقف ناحية ينتظر ما يكون من جوابها عن كتابها . فجمعت أمراءها ، ووزراءها ، وأكابر دولتها إلى مشورتها {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} .
ثم قرأت عليهم عنوانه أولاً :{ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ } ثم قرأته { وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ }.
ثم شاورتهم في أمرها ، وما قد حل بها ، وتأدبت معهم ، وخاطبتهم وهم يسمعون { قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ } . تعني : ما كنت لأبت أمراً إلا وأنتم حاضرون .
{ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ } ، يعنون : لنا قوة وقدرة على الجلاد والقتال ومقاومة الأبطال ، فإن أردت منا ذلك فإنا عليه من القادرين فبذلوا لها السمع والطاعة ، وأخبروها بما عندهم من الاستطاعة ، وفوضوا إليها في ذلك الأمر لترى فيه ما هو الأرشد لها ولهم ، فكان رأيها أفضل من رأيهم ، وعلمت أن صاحب هذا الكتاب لا يغالب ، ولا يمانع ، ولا يخالف ، ولا يخادع .{ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } .
تقول برأيها السديد : إن هذا الملك لو قد غلب على هذه المملكة لم يخلص الأمر من بينكم ، إلا إلي ، ولم تكن الحدة والشدة والسطوة البليغة إلا علي .
{ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ }
أرادت أن تصانع عن نفسها وأهل مملكتها ، بهدية ترسلها ، وتحف تبعثها ، ولم تعلم أن سليمان عليه السلام لا يقبل منهم ، والحالة هذه صرفاً ولا عدلاً ، لأنهم كافرون وهو وجنوده عليهم قادرون .
ولهذا : { فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ } هذا وقد كانت تلك الهدايا مشتملة على أمور عظيمة ، كما ذكره المفسرون .
ثم قال لرسولها إليه ووافدها الذي قدم عليه والناس حاضرون يسمعون { ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ } ، يقول : ارجع بهديتك التي قدمت بها إلى من قد من بها فإن عندي مما قد أنعم الله علي وأسداه إلي من الأموال والتحف والرجال ، ما هو أضعاف هذا وخير من هذا ، الذي أنتم تفرحون به ، وتفخرون على أبناء جنسكم بسببه .
{ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا } أي : فلأبعثن إليهم بجنود لا يستطيعون دفاعهم ، ولا نزالهم ، ولا مما نعتهم ، ولا قتالهم ، ولأخرجنهم من بلدهم ، وحوزتهم ، ومعاملتهم ، ودولتهم أذلة { وَهُمْ صَاغِرُونَ } عليهم الصغار ، والعار ، والدمار .
فلما بلغهم ذلك عن نبي الله ، لم يكن لهم بد من السمع والطاعة ، فبادروا إلى إجابته في تلك الساعة ، وأقبلوا صحبة الملكة أجمعين ، سامعين ، مطيعين ، خاضعين ، فلما سمع بقدومهم عليه ، ووفودهم إليه ، قال لمن بين يديه ممن هو مسخر له من الجان ، ما قصَّه الله عنه في القرآن . { قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } .
لما طلب سليمان من الجان أن يحضروا له عرش بلقيس ، وهو سرير مملكتها التي تجلس عليه وقت حكمها قبل قدومها عليه { قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ } يعني : قبل أن ينقضي مجلس حكمك .
وكان فيما يقال من أول النهار إلى قريب الزوال ، يتصدى لمهمات بني إسرائيل ، وما لهم من الأشغال
{ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ } أي : وإني لذو قدرة على إحضاره إليك ، وأمانة على ما فيه من الجواهر النفيسة لديك
{ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ } .
المشهور : أنه آصف بن برخيا ، وهو ابن خالة سليمان ، وقيل : هو رجل من مؤمني الجان ، كان فيما يقال يحفظ الاسم الأعظم ، وقيل : رجل من بني إسرائيل من علمائهم ، وقد قيل فيه قول رابع وهو : جبريل .
{ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } قيل : معناه قبل أن تبعث رسولاً إلى أقصى ما ينتهي إليه طرفك من الأرض ، ثم يعود إليك ، وقيل : قبل أن يصل إليك أبعد من تراه من الناس ، وقيل : قبل أن يكل طرفك إذا أدمت النظر به قبل أن تطبق جفنك ، وقيل : قبل أن يرجع إليك طرفك إذا نظرت به إلى أبعد غاية منك ثم أغمضته ، وهذا أقرب ما قيل . { فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ }
أي : فلما رأى عرش بلقيس مستقراً عنده في هذه المدة القريبة من بلاد اليمن إلى بيت المقدس في طرفة عين { قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ } أي : هذا من فضل الله علي، وفضله على عبيده، ليختبرهم على الشكر أو خلافه {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} أي: إنما يعود نفع ذلك عليه { وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } أي : غني عن شكر الشاكرين ، ولا يتضرر بكفر الكافرين . ثم أمر سليمان عليه السلام أن يغير حلى هذا العرش ، وينكر لها ، ليختبر فهمها وعقلها ، ولهذا قال : { نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ * فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُو َ} .
وهذا من فطنتها وغزارة فهمها ، لأنها استبعدت أن يكون عرشها ، لأنها خلفته وراءها بأرض اليمن ، ولم تكن تعلم أن أحداً يقدر على هذا الصنع العجيب الغريب .
قال الله تعالى إخباراً عن سليمان وقومه: { وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ * وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ }
أي : ومنعها عبادة الشمس التي كانت تسجد لها هي وقومها من دون الله ، اتباعاً لدين آبائهم وأسلافهم ، لا لدليل قادهم إلى ذلك ، ولا حداهم على ذلك .
وكان سليمان قد أمر ببناء صرح من زجاج ، وعمل في ممره ماء ، وجعل عليه سقفاً من زجاج وجعل فيه من السمك وغيرها من دواب الماء ، وأمرت بدخول الصرح ، وسليمان جالس على سريره فيه .
{ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } . وقد ذكر الثعلبي وغيره أن سليمان لما تزوجها أقرها على مملكة اليمن وردها إليه ، وكان يزورها في كل شهر مرة ، فيقيم عندها ثلاثة أيام ، ثم يعود على البساط ، وأمر الجان فبنوا له ثلاثة قصور باليمن : غمدان ، وسالحين ، وبيتون ، فالله أعلم .
وقد روى ابن إسحاق عن بعض أهل العلم عن وهب بن منبه أنه سليمان لم يتزوجها ، بل زوجها بملك همدان ، وأقرها على ملك اليمن ، وسخر زوبعة ملك جن اليمن ، فبني لها القصور الثلاثة التي ذكرناها باليمن ، والأول أشهر وأظهر ، والله أعلم . قال تعالى في سورة ص : {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ } . يذكر تعالى أنه وهب لداود سليمان عليهما السلام ، ثم أثنى الله عليه تعالى فقال : { نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } أي : رجاع مطيع لله ، ثم ذكر تعالى ما كان من أمره في الخيل الصافنات ، وهي التي تقف على ثلاث ، وطرف حافر الرابعة ، الجياد : وهي المضمرة السراع .
{ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } يعني : الشمس .
{ رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ } قيل : مسح عراقيبها وأعناقها بالسيوف ، وقيل : مسح عنها العرق ، لما أجراها وسابق بينها وبين يديه . قالوا : اشتغل بعرض تلك الخيول حتى خرج وقت العصر وغربت الشمس ، روي هذا عن علي بن أبي طالب وغيره ، والذي يقطع به أنه لم يترك الصلاة عمداً من غير عذر وقد قيل إنها كانت خيلا عظيمة ، قيل : كانت عشرة آلاف فرس ، وقيل : عشرين ألف فرس ، وقيل : كان فيها عشرون فرساً من ذوات الأجنحة .
وقال بعض العلماء : لما ترك الخيل لله ، عوضه الله عنها بما هو خير له منها ، وهو الريح التي كانت غدوها شهراً ورواحها شهرا كما سيأتي الكلام عليها .
وقوله تعالى : { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ }
ذكر ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وغيرهما من المفسرين ههنا آثاراً كثيرة ، وأكثرها أو كلها متلقاة من الإسرائيليات ، وفي كثير منها نكارة شديدة ، واقتصرنا ههنا على مجرد التلاوة ، ومضمون ما ذكروه أن سليمان عليه السلام غاب عن سريره أربعين يوماً ، ثم عاد إليه ، ولما عاد أمر ببناء بيت المقدس ، فبناه بناء محكماً .
* حكم سليمان :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن سليمان لما بني بيت المقدس سأل ربه عز وجل خلالاً ثلاثاً ، فأعطاه اثنتين ونحن نرجو أن تكون لنا الثالثة ، سأله حكماً يصادف حكمه فأعطاه إياه ، وسأله ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه ، وسأله أيما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد خرج من خطيئته مثل يوم ولدته أمه ، فنحن نرجو أن يكون الله قد أعطانا إياها )) . فأما الحكم الذي يوافق حكم الله تعالى ، فقد أثنى الله تعالى عليه وعلى أبيه في قوله : { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً … } .
روى أن هؤلاء القوم كان لهم كرم ، فنفشت فيه غنم قوم آخرين أي : رعته بالليل ، فأكلت شجره بالكلية ، فتحاكموا إلى داود عليه السلام فحكم لأصحاب الكرم بقيمته ، فلما خرجوا على سليمان قال : بما حكم لكم نبي الله ؟
فقالوا : بكذا وكذا .
فقال : أما لو كنت أنا لما حكمت إلا بتسليم الغنم إلى أصحاب الكرم ، فيستغلونها نتاجا ودراً حتى يصلح أصحاب الغنم كرم أولئك ويردوه إلى ما كان عليه ، ثم يتسلموا غنمهم . فبلغ داود عليه السلام ذلك فحكم به .
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( بينما امرأتان معهما ابناهما إذ عدا الذئب فأخذ ابن إحداهما ، فتنازعتا في الآخر .
فقالت الكبرى : إنما ذهب بابنك .
وقالت الصغرى : بل إنما ذهب بابنك .
فتحاكمتا إلى داود فحكم به للكبرى ، فخرجتا على سليمان فقال : ائتوني بالسكين أشقه نصفين لكل واحدة منكما نصفه ، فقالت الصغرى : لا تفعل يرحمك الله هو ابنها فقضى به لها )) .
قال الله تعالى : { وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ * وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ } .
* تسخير الريح و الشياطين له :
ثم قال : { وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ * وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ }
وقال في سورة ص : { فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ }
لما ترك الخيل ابتغاء وجه الله ، عوضه الله منها الريح التي هي أسرع سيراً ، وأقوى وأعظم ، ولا كلفة عليه لها ، تجري بأمره رخاء { حَيْثُ أَصَابَ } أي : حيث أراد من أي البلاد، كان له بساط مركب من أخشاب بحيث إنه يسع جميع ما يحتاج إليه من الدور المبنية ، والقصور ، والخيام ، والأمتعة ، والخيول ، والجمال ، والأثقال ، والرجال من الأنس والجان ، وغير ذلك من الحيوانات والطيور ، فإذا أراد سفراً أو مستنزهاً ، أو قتال ملك ، أو أعداء من أي بلاد الله شاء . فإذا حمل هذه الأمور المذكورة على البساط ، أمر الريح فدخلت تحته فرفعته ، فإذا استقل بين السماء والأرض ، أمر الرخاء فسارت به ، فإن أراد أسرع من ذلك ، أمر العاصفة فحملته أسرع ما يكون فوضعته في أي مكان شاء ، بحيث إنه كان يرتحل في أول النهار من بيت المقدس ، فتغدو به الريح فتضعه باصطخر مسيرة شهر فيقيم هناك إلى آخر النهار ، ثم يروح من آخره فترده إلى بيت المقدس .
كما قال تعالى : { وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ } .
قال الحسن البصري : كان يغدو من دمشق ، فينزل باصطخر فيتغدى بها ، ويذهب رائحاً منها ، فيبيت بكابل ، وبين دمشق وبين اصطخر مسيرة شهر ، وبين اصطخر وكابل مسيرة شهر .
قلت : قد ذكر المتكلمون على العمران والبلدان : أن اصطخر بنتها الجان لسليمان ، وكان فيها قرار مملكة الترك قديماً ، وكذلك غيرها من بلدان شتى كتدمر ، وبيت المقدس ، وباب جبرون ، وباب البريد ، اللذان بدمشق على أحد الأقوال . وأما القطر فقيل : هو النحاس .
{ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ }
أي : وسخر الله له من الجن عمالاً يعملون له ما يشاء ، لا يفترون ولا يخرجون عن طاعته ، ومن خرج منهم عن الأمر عذبه { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ } وهي : الأماكن الحسنة ، وصدور المجالس { وَتَمَاثِيلَ } وهي : الصور في الجدران ، وكان هذا سائغاً في شريعتهم وملتهم { وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ } . قال ابن عباس : الجفنة كالجوبة من الأرض وعنه كالحياض وهي الحوض الذي يجبي فيه الماء وأما القدور الراسيات فقيل : أنهن ثوابت لا يزلن عن أماكنهن . ولما كان هذا بصدد إطعام الطعام ، والإحسان إلى الخلق من إنسان وجان ، قال تعالى : { اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } وقال تعالى : { وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ } يعني أن منهم من قد سخره في البناء ، ومنهم من يأمره بالغوص في الماء لاستخراج ما هنالك من الجواهر ، والآلي ، وغير ذلك مما لا يوجد إلا هنالك . وقوله : { وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ } أي : قد عصوا فقيدوا ، مقرنين : اثنين اثنين في الأصفاد ، وهي القيود ، هذا كله من جملة ما هيأه الله ، وسخر له من الأشياء التي هي من تمام الملك ، الذي لا ينبغي لأحد من بعده ، ولم يكن أيضاً لمن كان قبله .
وقد ذكر غير واحد من السلف أنه كانت لسليمان من النساء ألف امرأة ، سبعمائة بمهور ، وثلاثمائة سراري ، وقيل : بالعكس ثلاثمائة حرائر ، وسبعمائة من الإماء . وقد كان يطيق من التمتع بالنساء أمراً عظيماً جداً .
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( قال سليمان بن داود لأطوفن الليلة على مائة امرأة ، كل امرأة منهن تلد غلاماً يضرب بالسيف في سبيل الله ، ولم يقل إن شاء الله، فطاف تلك الليلة على مائة امرأة فلم تلد منهن امرأة إلا امرأة ولدت نصف إنسان .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو قال إن شاء الله لولدت كل امرأة منهن غلاماً يضرب بالسيف في سبيل الله عز وجل )) . وقد كان له عليه السلام من أمور الملك ، واتساع الدولة ، وكثرة الجنود وتنوعها ، ما لم يكن لأحد قبله ، ولا يعطيه الله أحداً بعده كما قال : { وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } ،{ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } وقد أعطاه الله ذلك بنص الصادق المصدوق .
ولما ذكر تعالى ما أنعم به عليه وأسداه ، من النعم الكاملة العظيمة إليه قال : { هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي : أعط من شئت ، واحرم من شئت ، فلا حساب عليك ، أي تصرف في المال كيف شئت ، فإن الله قد سوغ لك كلما تفعله من ذلك ولا يحاسبك على ذلك . وهذا شأن النبي الملك بخلاف العبد الرسول ، فإن من شأنه أن لا يعطي أحداً ، ولا يمنع أحداً إلا بإذن الله له في ذلك ، وقد خير نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه بين هذين المقامين ، فاختار أن يكون عبداً رسولاً .
وقد جعل الله الخلافة والملك من بعده في أمته إلى يوم القيامة ، فلا تزال طائفة من أمته ظاهرين حتى تقوم الساعة، فالله الحمد والمنة .
* وفــاته :
قال الله تبارك وتعالى : { فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ } .
عن ابن مسعود ، وعن أناس من الصحابة : كان سليمان عليه السلام يتجرد في بيت المقدس السنة والسنتين ، والشهر والشهرين ، وأقل من ذلك وأكثر ، يدخل طعامه وشرابه ، فأدخله في المرة التي توفي فيها ، و لم يكن يوم يصبح فيه ، إلا نبتت في بيت المقدس شجرة ، فيأتيها فيسألها ما اسمك ؟
فتقول الشجرة : اسمي كذا وكذا .
فيقول لها : لأي شيء نبت ؟
فتقول : نبت لكذا وكذا فيأمر بها فتقطع ، فإن كانت لغرس غرسها ، وإن كانت نبتت دواء قالت نبت دواء لكذا وكذا ، فيجعلها كذلك .
حتى نبتت شجرة يقال لها : الخروبة فسألها : ما اسمك ؟
فقالت : أنا الخروبة .
فقال : ولأي شيء نبت ؟
فقالت : نبت لخراب هذا المسجد .
فقال سليمان : ما كان الله ليخربه وأنا حي ، أنت التي على وجهك هلاكي ، وخراب بيت المقدس ، فنزعها وغرسها في حائط له ، ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئاً على عصاه فمات ، ولم تعلم به الشياطين وهم في ذلك يعملون له ، يخافون أن يخرج فيعاقبهم .
وكانت الشياطين تجتمع حول المحراب ، وكان المحراب له كوى بين يديه وخلفه ، فكان الشيطان الذي يريد أن يخلع يقول الست جليداً إن دخلت فخرجت من ذلك الجانب ، فيدخل حتى يخرج من الجانب الآخر .
فدخل شيطان من أولئك فمر ، ولم يكن شيطان ينظر إلى سليمان عليه السلام وهو في المحراب إلا احترق ، ولم يسمع صوت سليمان ، ثم رجع فلم يسمع .
ثم رجع فوقع في البيت ولم يحترق ، ونظر إلى سليمان عليه السلام قد سقط ميتاً ، فخرج فأخبر الناس أن سليمان قد مات ، ففتحوا عنه فأخرجوه ووجدوا منسأته – وهي العصا بلسان الحبشة – قد أكلتها الأرضة ، ولم يعلموا منذ كم مات ، فوضعوا الأرضة على العصا ، فأكلت منها يوماً وليلة ، ثم حسبوا على ذلك النحو ، فوجدوه قد مات منذ سنة .
فمكثوا يعملون له من بعد موته حولاً كاملاً ، فأيقن الناس عند ذلك أن الجن كانوا يكذبون ، ولو أنهم علموا الغيب لعلموا بموت سليمان ، ولم يلبثوا في العذاب سنة يعملون له ، وذلك قول الله عز وجل : { مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ } .